(( كلمة الدكتور مصطفى البارودي ))
|
ثم أعطيت الكلمة لمعالي الدكتور مصطفى البارودي فقال: |
- بسم الله الرحمن الرحيم.. |
- الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، والشكر لله (تعالى) أن جعل الليلة كالبارحة والبارحة - منذ عامين - دعيت من الإنسان الكريم النبيّل الشيخ عبد المقصود لأتكلم في العلامة الأستاذ الزرقاء، وأراني اليوم وكأني لم أغب إلاَّ أربعاً وعشرين ساعة، لأرى النورين نوراً على نور الزرقاء والعجلاني؛ في هذا المجلس الَّذي أراد الله له أن يكون ضياء، ومن بعده تأتي الأنوار وليست الشمس هي المصدر في هذا المكان الرحيب، تجتمعون أسبوعاً بعد أسبوع وأرنو إليكم في سنتين مضتا كأنهما ليلة، لأسأل إخواني الَّذين حضروا وأنا هناك في نيس ولا أفتأ وأنا أقول: لا جليس ولا أنيس، أسأل عن الاثنينية فأراها عامرة بوجوهكم تكرم أناساً يكرمهم كريم أصيل، وما يكرم الكرام إلاَّ كريم. |
- يا أخي الشيخ عبد المقصود: تكلمت فسألت نفسي هل أستطيع أن أجاريك في تقديم الدكتور العجلاني والحديث عنه؟ ثم جاء الأستاذ الزرقاء فأتعب من بعده؟ أنَّى لي أن أسمو إلى مثل حديثك في الرياحين والأزهار والعود والعطر؟ وأنَّى لي الذاكرة التي حباك الله إياها؟ زادك الله قوة في الشعر والنثر؛ إني أستغفر الله (تعالى) أن أتكلم من بعد أن تكلم من هو أقدر مني، ولذلك لن أطيل عليكم، بل أبدأ بكلمة الصقيع على لسان الشيخ عبد المقصود. |
- فعلاً غادرت فرنسا والدرجة تحت الصفر بكثير، ووصلت إلى هنا لأستمتع بالدفء، ليس دفء الحرارة العادية فقط، إنما دفء هذه الوجوه على مقربة من الحرمين، على مقربة من بلاد أعزها الله وجعلها مناراً أبد الدهر ومصدر إشعاع إسلامي، أَوَليس هذا المجلس نوراً من هذه الأنوار؟ قبساً فيه الاثنينية التي خلال اثني عشر عاماً تكرم واحداً بعد واحد من حملة القرآن، من سادة البيان من الأعلام في دنيا العرب والمسلمين. |
- نعم جئت من الصقيع إلى الدفء، فتذكرت ليلة ليلاء في باريس الحرارة دون الصفر منذ ستة وأربعين عاماً ونيف، سمعت أن أستاذاً يعطي محاضرات عن الفكر السياسي وأنه يأتي مبكراً، يعني يبدأ محاضرته على الثامنة، الشمس تشرق في باريس يوم ذاك في الشهر الأول من عام سبعة وأربعين - حسب التقويم الميلادي - في الثامنة والربع، فخرجنا من الدار، أو من الفندق قبل الثامنة، الطريق كلها ثلوج نخشى أن تزل قدم بعد ثبوتها، حين نضع قدمنا في مكان لا نسطيع أن نأمن منه، ثم نرى أن الثلج الَّذي تهاطل على الشجر جاءه شيء من ضياء الشمس فأذابه فتساقط أقلاماً من الكريستال؛ والليل ليل، الضوء باهت في أعقاب الحرب، تسلط على الأقلام، فإذا هي أضواء كأنها ثريات من السماء. |
- في هذا الجو الساحر دخلنا المعهد، معهد الحقوق المقارنة حيث يحاضر أستاذ في الفكر السياسي، فإذا هو في ذلك الحين يتكلم بهذه الكلمة، يقول: هل تعرف العبقرية عمراً؟ وكان يريد أن يتحدث حديثاً يعرفه أخي وأستاذي حسان المحاسني من الأوائل الَّذين نجحوا في المحاماة، لأنه ذكي وعبقري وابن أذكياء عباقرة؛ حديث عن اليكسي دوتكفيل. |
- يقول الأستاذ: هل تعرف العبقرية عمراً؟ هذا الحديث ينطبق - تماماً - على منير العجلاني، هل تعرف العبقرية عمراً؟ من يصدق أنه أخذ الدكتوراة في سن كان بعض الناس لم يأخذوا الشهادة الثانوية، ولكن السجلات قائمة في باريس، الأطروحة، تتلمذت على أطروحته مثلما تتلمذت عليه أستاذاً، لما أعطانا في القانون المدني الفرنسي سحر البيان، جلى لنا غموضاً ما كان أحد كالعجلاني يستطيع أن يجلوه، لأنه كما قال فيه زهير شلق: "إنه نهر عريض فيه ماء زلال يجري ويجري ويسقي وينفع الناس، ويمكث في الأرض، فإذا صادفته حصاة أو صخرة ارتطم بها، فإذا هو يتفجر شلالاً ثم يعود إلى صفائه" فكذلك العجلاني إذا خطب وتحمس ألهب الصدور، وإذا تكلم حديثاً عادياً استغرق الضباط الفرنسيين الَّذين يستمعون إليه، كان عمري اثني عشر عاماً حين كان يخطب في الضباط الفرنسيين ليعنفهم بأدب بليغ لأنه خريج أدب وخريج قانون، يعلمهم أنه عار على فرنسا التي كتبت - فيما تدعي - كتب الحرية والإخاء والمساواة، استقاء مما يسمى ثورة؛ عار عليها أن تفعل ما تفعل في الدول العربية خاصة في سوريا، فسحر الضباط الفرنسيين وجاء دورنا لنسحر من بعدهم، بعد أن جاوزت الثانية عشرة إلى الثامنة عشرة وأصبحت تلميذاً في كلية الحقوق. |
- وقلت فيما سبق: لا أعرف بين الأساتذة الكثير الَّذين درسوا في كلية الحقوق إلاَّ اثنين أحفظ لهما الجميل: هما مصطفى الزرقاء والعجلاني.. تركا في النفوس أثراً، الزرقاء في الشريعة الإِسلامية ومنير العجلاني في المقارنة مع التشريعات الفرنسية؛ مقارنة جذابة صعبة قاسية، لينها كمثل النهر الَّذي يرى الصخرة فيثب من فوقها شلالاً في رذاذ من الزلال يسقى العطاشى، يسقي الظمأى.. فإذا نحن نرتوي من علمه مثلما ارتوينا من الزرقاء. |
- العجلاني - كأستاذ - سحرنا كما سحر قبلنا النواب، لأنه بدأ التدريس عام ثلاثة وأربعين للميلاد وكان نائباً، عام ستة وثلاثين. |
اسمحوا لي أن أقول العجلاني سحر النواب وسحر الناس، كنا نسعى ونحن صغار إلى أن نأخذ بطاقة الدخول لنقعد في الشرفة، ونستمع إلى العجلاني، كما كنا نستمع إليه مع الضباط الفرنسيين نجد في الناس من يساعدنا؛ رحم الله شكري القوتلي، كنت عريفاً لحفلاته الإنتخابية، ومن قبل ذلك عرفته عن طريق الشهيد الدكتور مسلم البارودي أخي؛ بهذه الواسطة استطعنا أن ندخل إلى البرلمان لنستمع إلى العجلاني، خطابه في البرلمان، محاضراته في كلية الحقوق، في البرلمان أصغر نائب، في كلية الحقوق أصغر أستاذ، في الوزارة أول من ولي الوزارة وهو دون الثلاثين في تاريخ سوريا جميعاً. |
- لكنه هل يا ترى قصر في هذا أو ذاك، أو كان قد أبدع كل الإبداع؟ هذه هي العبقرية التي ألهمته في ما بعد أن يكتب عبقرية الإِسلام في أصول الحكم، هذا الكتاب ما يزال نوراً في هذه الجامعة، جامعة الملك سعود.. وجامعات أخرى في هذه البلاد؛ دعيت إلى تدريس النظام السياسي في الإِسلام؛ فاقتبست من كتاب الدكتور العجلاني الشيء الكثير، وودتُ لَو أن الطلاب قرؤوه جميعاً، لكن لضرورات معينة وأسباب لا ضرورة لذكرها كنا نختصر.. ونختصر.. ونختصر.. كان النظام السياسي في الإِسلام يختصر يا حسرة علينا؛ ولكن أدعوهم لقراءة الكتاب فيهرعون إلى المكتبة فيقرؤون ولكن دون أن يكونوا مسؤولين في الامتحان، بعيداً عن الامتحان؛ ولكن الكتاب بقي بين أيديهم وشعت أنواره في قلوبهم - والحمد لله -. |
- إنما نقطة عند العجلاني أحب أن أقولها الآن حتى لا أطيل عليكم، لأن الزرقاء لم يترك لي مجالاً من بعد الشيخ عبد المقصود أيضاً، وهي الخلق الَّذي يتأسى فيه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم نعم إن المنتسبين إلى الرسول لا يشرفهم إلاَّ عملهم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لكن هو منتسب إلى الرسول إذاً نور على نور، الخلق العظيم ما هو؟ |
- أنا كنت تلميذه، ثم أوفدت لأحصل على شهادة الدكتوراة، فعدت في أول مراتب التدريس في أدنى السلم، وبأدب بالغ تقدمت إلى أستاذي، لأنهم جعلوني في قسمه، يعني في قسم القانون العام، أو الحقوق العامة، الحقوق الدستورية والإدارية، والفكر السياسي، والمبادئ العامة للحقوق، وما شئتم..، هل استقبلني استقبال الطالب وكلمني من عليائه؟ وحق له لأنه كان في كرسي الأستاذية وأنا في أدنى مراتب الأستاذية.. في أدنى السلم - يشهد الله عاملني كزميل لا كطالب سابق، ولا كمبتدئ على سلم التدريس، وأكرمني كرماً لا حد له؛ حتى إذا سمعت أنه في السجن وكان يسأل عن كتاب يريد أن يتسلى به في السجن، حصلت عن طريق قريب لي في تلك الأيام - كان اليد اليمنى لأديب الشيشكلي ثم قطع الشيشكلي هذه اليد، وهو ابن خالتي، قلت له: أريد أن أزور الدكتور العجلاني - حصلت على إذن فزرته في الزنزانة فوجدته صابراً صبر أولو العزم؛ فاصبر كما صبر أولو العزم، صابراً واستمتعت بحديثه وخرج من السجن مبرأ طبعاً، المكيدة الأولى لم ينجحوا فيها، نجحوا في المكيدة الثانية ولكنه برئ على طول الخط. |
- إنما هنا حلو البيان، دخل إلى كلية الحقوق وهو خارج من السجن ليمارس أول محاضرة بعد خروجه من السجن، أحفظ الكلمات التي قالها، كان هناك أربعة شهود، اثنان ضده واثنان معه، انظروا إلى هذا الوصف، شهد علي شاهدان: شاهد النسيان وشاهد البهتان؛ وشهد لي شاهدان شاهد الإيمان وشاهد الوجدان.. وتسلسل حديثه فإذا العيون تدمع، أستاذ جليل يتعرض لسجنه ومحاولة قهره أناس لا يصلون إلى أدنى مراتب، لا أقول سلم التدريس وإنما سلم آخر، ثم مكيدة ثانية.. واقتيد إلى السجن مرةً ثانية، وثالثة. |
- الثالثة هي الأعظم لأنه كتب مرافعة وألقاها، أرجو من الله أن يتوافر له ويحصل عليها ويجدها؛ آية من آيات البيان، ولا ريب ونقيب المحامين (رحمه الله) فؤاد القدماني في ذلك الحين كان عنده نسخة، أسأل الله أن يكون أهله قد حافظوا عليها، لأن الدكتور العجلاني لا يضيع فقط مآثره، السجن والتنقل والعذاب ضيعت عليه كثيراً من مؤلفاته، ومما كان كتب، بما في ذلك هذا الَّذي تخاطفه الناس في حينه، لم تبق عنده إلا نسخة وهذه النسخة ضاعت ولا أدري من أخذها؟ ككتاب الأستاذ الزرقاء سرقوه منه وطبعوه طبعة وحشية في بيروت فصار يشتري الطبعة الوحشية، أرجو أن يشتري الدكتور العجلاني محاضرته للدفاع عن نفسه. |
- الآن أطلت عليكم، وكنت أحسب أني سأكون مختصراً وأن الدكتور الزرقاء هو الَّذي أطال.. فأطلت أنا؛ إنما أعتز بكم - جميعاً - وأعتز بصاحب هذه الدعوة.. هذه الاثنينية، وأعتز بكل ذي بيان سحر الناس بنور القرآن يتدفق على لسانه كالسلسبيل، إنه ماء طهور من نور لله (تعالى) ومن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الَّذي أنزل عليه القرآن ومثله معه ونحن الآن في ضوء هذا القرآن نجتمع، وما أحلى أن نقول: وآخر دعواهم أن الحمد لله ربّ العالمين. |
|
|