(( كلمة الدكتور مصطفى الزرقاء ))
|
ثم أعطيت الكلمة لسعادة الدكتور مصطفى الزرقاء فقال: |
- بسم الله الرحمن الرحيم.. |
- إخواني الكرام: لم أجد نفسي متحيرة في قول في مقام ما كما وجدتها في هذه المناسبة، قال لي بعض إخواني: إنه لا بد أن أتكلم بهذه المناسبة عنهم، ولا شك أن هذا يسعدني أن أكون لسانهم القائل في تكريم أخ كريم قديم هو مثال للعبقريات المتنوعة، معالي الدكتور منير العجلاني، ولكني تحيرت والله، لم أعرف من أين أبدأ وكيف أصل وكيف أنتهي؟ ذلك أن معالي الأخ الكريم الدكتور منير العجلاني - كما هو معروف عنه - جم المزايا، متعدد النواحي، متنوع الخصائص، ذو عبقريات كثيرة في مجالات عديدة، منها ما كنت أعرفه ومنها ما لم أعرفه، إلاَّ بعد مجيئي إلى الرياض، حيث حدثني في مناسبة ما أخونا الكريم الدكتور مصطفى البارودي، أنه استمتع في جلسة في بيت الدكتور العجلاني بالاطلاع على إضبارة واسعة من الشعر الرقيق، الشعر العالي، الَّذي أسمعه إياه؛ فقلت له: لم أعرف أن الدكتور العجلاني له شعر، أنا أعرفه خطيباً مفوهاً، أعرفه كاتباً فحلاً مجيداً ساحراً في قلمه، أعرفه عبقرياً في تفكيره القانوني الحقوقي، أعرفه زميلاً في كلية الحقوق قضينا شطراً من الزمن في تدريس القانون، وأعرف.. وأعرف.. وأعرف.. ولكني لم أكن أعرفه شاعراً. |
|
- قال لي: إذا صادف أن اجتمعت به في بيته فاطلب منه أن يريك الإضبارة، فرتبت معه جلسة وقلت له: على شرط أن تطلعني على الإضبارة، ولم تكتم ما لديك من شعر وهذه مزية، وقد أطلعني عليها في تلك الجلسة، والواقع أني رأيت منه شيئاً أضفته إلى معلوماتي الكثيرة عنه، وهو أنه شاعر مجيد. |
- إخواني: تحيرت من أين أتكلم عنه فجاءني قول الشاعر: |
هو البحر من أي النواحي أتيته |
فلجته المعروف والجود ساحله
(1)
|
|
|
- فهل أدخل في الساحل وهل سأصل إلى اللج؟ تحيرت في هذا مما أعرف من عمق المسافة.. ثم أنقذني الله؛ وفي الوقت نفسه لا أريد أن أكرر ما يقوله غيري؛ ذلك أني من المؤمنين بقول الشاعر: |
إذا جلست إلى قوم تحدثهم |
فيما تحدث عن ماض وعن آتي |
فلا تعيدن حديثاً إن طبعَهُمُ |
موكل بمعاداة المعادات |
|
|
- فلذلك لا أريد أن أكرر، إذاً ماذا أريد؟ هداني الله أن أتكلم عنه في ناحية أنا أعرف بها، وقد أكون أنا الوحيد الَّذي أعرفها فيما أصبحت، وقد يكون هو قد نسيها من مآثره الكثيرة، ذلك أنه رجل ينسى محاسنه وينسى مآثره، وأياديه خلافاً للكثيرين الَّذين يتبجحون؛ وهذا تأييد لما قاله الأخ الكريم المضيف الشيخ عبد المقصود عن المحتفى به، إنه لا يريد أن يبرز في النور وإن كان هو الَّذي يرسل الأنوار. |
- إخواني الكرام: الأستاذ منير العجلاني، أنا بدلاً من أن أحيط بمزاياه - وهذه عسيرة جداً - أنا ألخص عنه كلمتين مختصرتين، ثم أنتقل إلى الناحية التي أعرف بها. |
- إنه أشبه بزجاجة عطر استخلص من حديقة كبيرة، فيها مختلف الرياحين والأزهار ذات الروائح العطرة الكريمة؛ فأنت إذا أردت أن تصف هذه الزجاجة وما فيها من رائحة تقول: هل هي ورد؟ تقول: هناك شيء آخر؛ تقول هل هي ياسمين؟ تقول - أيضا - هناك شيء آخر، وهكذا تنتقل..، هل هي الفل؟ وبالمناسبة - للفكاهة - الفل - أعتقد - هو تحريف عن كلمة الجل التي وردت في شعر الأعشى، الَّذي يقول: |
وشاهدنا الجل والياسمين والمسمعـات لقصابـها |
وبربطنا معمل دائم فأي الثلاثـة أولـى بـها
(2)
|
|
- فكلمة الجل أعتقد أننا حرفناها نحن إلى الفل، والبربط هو العود، الأعشى يصف ليلة من لياليه الممتعة..- إخواني الكرام: هكذا شأن أخينا، لا تستطيع أن تحيط بمزاياه لأنها صعبة، فهل أتكلم عن كونه قانونياً بارعاً أدى مهمة وخرَّج آلافاً من الطلاب؟ لقد كنا في زمالة واحدة معه نتعاون على هذا الواجب، أم أتكلم عن أدبه وسعته فيه؟ أم أتكلم عن شعره؟ أم أتكلم عن قلمه الساحر في كتاباته الصحفية؟ أم أتكلم عن خطابته البليغة التي كان يرقص بها الجماهير؟ أم أتكلم عن ماذا وعن ماذا؟ لهذا رأيت خيراً لي أن أترك هذا لغيري من المتكلمين الكرام، وأن أتكلم عن الناحية التي أنا أعرف بها. |
- ما هي هذه الناحية، والتي أظن أنها قد نسيها من مآثره الكريمة، في الخمسينيات الماضية اجتمعنا أربعة، أنا والأستاذ محمد المبارك (رحمه الله) والأستاذ مصطفى السباعي (رحمه الله) وأخونا دولة الدكتور معروف الدواليبي، وكنا - جميعاً - في الجامعة السورية قبل أن تسمى جامعة دمشق وتذاكرنا إن هذه الجامعة - وذلك كان خلال الموجة التي سيطر جماعة من الحزبيين المنحرفين عن الخط الإِسلامي، وتمكنوا من أن يكون لهم كلمة - فقلنا هذه الجامعة فيها جميع الاختصاصات والكليات إلاَّ الشريعة، لا يوجد فيها كلية للشريعة، وهذا نقص كبير وهذا جحود لحق البلاد. |
- ولا سيما أننا في سوريا عندنا ثانوية شرعية، تخرج طلاباً يحملون هذه الثانوية، كما يحمل طلاب التجارة ثانوية تجارية، وطلاب مدارس الصناعة ثانوية صناعية، فعندنا ثانويات شرعية وأنا من المتخرجين منها، وهذه الثانوية وامتحاناتها عامة تهيئها وزارة المعارف لدخول كلية شريعة؛ فأين هذه الكلية؟ فكأنهم مثل الَّذي يعد عدة لأمر ما وهذا الأمر محجوب عنه، إذاً فهذا نقص كبير ويجب أن توجد في الجامعة كلية للشريعة، كيف نعمل ونحن نعرف المعارضة إذ ذاك كانت هناك موجة علمانية وعلى يد بعض الأحزاب الخبيثة، كان لهم سيطرة وعن طريق الجيش وما إلى ذلك فما العمل؟ |
- كان من حسن التقدير أن الدكتور العجلاني هو وزير المعارف، فقلنا هذه الفرصة المتاحة، هذا الرجل الكريم، هذا الَّذي نستطيع أن نتفاهم معه، هذا الَّذي يحمل مثل مشاعرنا، فعلينا به. |
- وهكذا قصدناه وبحثنا معه الأمر وبينا له هذه الضرورة، فما أحوجنا إلى إقناع، فإذا به - رأساً - يستجيب ويقول: أنا وإياكم على هذا المشروع، وفي الحال اتخذ الإجراءات اللازمة ومشى الموضوع في طريقه، فولدت كلية الشريعة على يديه. |
- هذه المأثرة لا ننساها له، وهي تعادل مآثر كثيرة لو عرفتم ماذا كان من أمر كلية الشريعة، كلية الشريعة التي مضى على تأسيسها الآن قرابة أربعين سنة، هذه الكلية خرَّجت عديداً من الرجال الَّذين أصبحوا اليوم عمداء كليات وأساتذة كباراً، ومنهم من تولى مهمات إدارية ضخمة ومنهم.. ومنهم.. في كلية الشريعة في الجامعة الأردنية قبل عشرين عاماً لما جئتها فكان - وإلى اليوم - معظم أساتذتها من خريجي كلية الشريعة في دمشق، ومعظم عمدائها الَّذين تعاقوا عليها من خريجي كلية الشريعة في دمشق. |
- وهكذا إخواني انتشر ووجد عن طريق كلية الشريعة أثر عظيم هو مدين للدكتور العجلاني، كان من ثمرات كلية الشريعة موسوعة الفقه الإِسلامي التي أقرت في مؤتمر أسبوع الفقه الإِسلامي في باريس، سنة إحدى وخمسين وتسعمائة وألف؛ وقد أذهلت الحاضرين - ومنهم نقيب المحامين في باريس وغيرهم - لما قالوا: كنا نظن الفقه الإِسلامي والشرع الإِسلامي أمر عتيق وتشريع ديني لا يجاري العصر وحاجاته، فإذا بنا نسمع من هذه المحاضرات شيئاً أذهلنا، ورأينا أننا كنا في وهم؛ وكان من نتيجة ذلك الأسبوع أن قرر أسبوع الفقه الإِسلامي - وكان رئيسه فرنسياً هو المسيو ميو، وكان أستاذ الشريعة في جامعة الجزائر - قرروا أن ينشأ موسوعة فقهية مرتبة على حروف الهجاء موضوعاتها، لتسهل لجميع غير المختصين أن يرجعوا إليها ويعرفوا ما في الفقه الإِسلامي من كنوز. |
- وهكذا أنشأنا في كلية الشريعة نواة الموسوعة الفقهية، ثم اتفقنا فيها في أيام الوحدة مع مصر على أن يكون المشروع مشتركاً، ثم لما انفصمت الوحدة سارعت الكويت إلى متابعة المشروع واستقدمتني إعارة من كلية الحقوق، وهكذا.. ولد مشروع الموسوعة، والَّذي هو الآن في طريقه يمشي وينتج وصدر عنه ما يقارب ثلاثين جزءاً؛ كانت هذه الموسوعة من ثمرات كلية الشريعة في جامعة دمشق، وكانت كلية الشريعة في جامعة دمشق ثمرة من الثمرات الكثيرة التي تدين لأخينا الكريم الَّذي نحتفي به اليوم الدكتور العجلاني. |
- لا أريد أن أطيل، لأني لو أردت أن أدخل في مآثره والله أجدني عاجزاً؛ بارك الله فيه وأكثر من أمثاله، والشكر لأخينا الكريم الشيخ عبد المقصود، الَّذي أتاح لنا هذه الفرصة وأعرب - بحمد الله - أنه لا يزال في البلاد العربية والإِسلامية من يقدر الرجال. |
- والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
|
|