شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تيارات
تحية من خلال مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية (1)
بقلم أ.د. محمد بن مريسي الحارثي
قبل ما يقرب من خمسين عاماً تلقف طلاب العلم، وأساتيذهم الطبعة الأولى من كتاب (مصادر الشعر الجاهلي، وقيمتها التاريخية) وقد نال به الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد درجة الدكتوراه في الآداب من جامعة القاهرة بتقدير ممتاز، وذلك سنة 1955م. وقد تعدّدت منابر، وأوقات تكريم هذا الأستاذ العلم منذ جائزة الدكتور طه حسين لأول الخريجين في قسم اللغة العربية في جامعة فؤاد الأول سنة 1947م حتى هذه الليلة التي يكرّم فيها صالون الشيخ عبد المقصود خوجه الدكتور الأسد، مروراً بجائزتي الملك فيصل العالمية للأدب عام 1402هـ 1982 م وسلطان بن علي العويس الثقافية، في حقل الدراسات الأدبية والنقد العام سنة 1994/1995م.
وقد ألف الأستاذ الأسد وحقق أكثر من سبعين كتاباً وبحثاً في قضايا الأدب والنقد.
وسأسجّل شهادتي وتحيتي لهذا الناقد البارز، والباحث المتميز في هذه المناسبة الاحتفالية الكريمة من خلال الكتاب المشار إليه في صدر هذه التحية.
فقد صدّر الأسد كتابه هذا بمقدمة في ست صفحات أشار فيها إلى صلته بالشعر الجاهلي متعلماً له، وباحثاً في مصادره التاريخية.
وكان الميل الغريزي باعثه الأول على قراءاته التحصيلية لهذا الشعر فكوَّن له هذا ميلاً ذوقياً إلى شعر الجاهليين ترسَّخ بعده ميله الذهني الذي اختزن مادة وفيرة من هذا الشعر.
وقد ترسّخ هذا الميل الذهني أكثر بعد صدور كتاب الأستاذ الدكتور طه حسين (في الشعر الجاهلي) في الثلاثينيات من القرن العشرين. وما صاحب صدور هذا الكتاب من هزة بحثية تمثلت في العديد من ردود الفعل لما أثاره كتاب طه حسين من أسئلة منهجية، ومادية. وكان أكثر ردود الفعل تلك تنتقص نتائج دراسة طه حسين أكثر من موافقتها لها.
وكان البحث في مصادر الشعر الجاهلي هو أسس الإشكالية التي أثارها الدكتور طه حسين بعد أن كان مرجليوث قد شكك في الشعر الجاهلي في بحثه (أصول الشعر العربي) الذي نشره في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية سنة 1925م.
وقد تداخل منهج طه حسين في كتابه مع المنهج الديكارتي من حيث تبنّي الشك المثير لكثير من الأسئلة تمهيداً للوصول إلى اليقين الذي تستقر أمامه نتائج المقدمات البحثية. لكن شك طه حسين في الشعر الجاهلي لم يكن في جوهره طريقاً للبحث عن الحقيقة التي لم يجهد نفسه في البحث عنها طريقة ومنهجاً.
وكانت الدراسة الأولى للدكتور الأسد ذات العلاقة بالشعر الجاهلي دراسته عن (القيان وأثرهن في الشعر العربي في العصر الجاهلي) وهي الدراسة التي حصل بها على درجة الماجستير وكانت دراسته لمصادر الشعر الجاهلي أعمق، وأدق من هذه الدراسة، إذ وثّق مادة هذا الشعر وفق منهج علمي تاريخي تتبع فيه رواية الشعر عند الثقات من الرواة. وعدّ هذه الخطوة نقطة البدء الصحيحة للوصول إلى جذور هذا الشعر. وهذه الخطوة في نظر الباحث لم يلتفت إليها كثير من دارسي هذا الشعر. ثم أعقب هذه النقطة المبدئية بدراسة الشعر من داخله دراسة استقرائية نصية استشفافاً لدلالاته في حدود ألفاظه ومراميه، كما هي عبارة المؤلف.
ولما كانت هذه الدراسة تقوم في مقدماتها على الرواية والأخبار التاريخية والنصوص الشعرية، فإنه من المتوقّع والحالة هذه تغليب رواية على رواية، وخبر على غيره مما يقلل من شأن الحكم القطعي في مثل هذه الدراسات النظرية البحتة. لذلك كان الوصول إلى النتائج عند الدكتور الأسد يعتمد الحاسّة المرجّحة لأمر على غيره وفق قناعات الباحث، وما أتاحته له أدواته المنهجية.
وقد مهّد لكتابه بنبذة قصيرة عن حياة العرب الجاهليين أشار بعد ذلك إلى ظهور الكتابة عندهم وموضوعاتها وكيف ساعد هذا مع طرق الرواية على تدوين الشعر الجاهلي بعد ذلك عندما نشطت حركة التأليف عند العرب، وأرّخت لهذه المرحلة الشعرية من حياة العرب.
وقد عالج الدكتور الأسد طرق الرواية منذ الجاهلية حتى مرحلة التدوين في العصر الأموي، مشيراً في ذلك إلى طبقات الرواة من الثقات، والوضّاعين، وطرق الإسناد في الرواية الأدبية. وقد أسهم في دراسة أخطر قضية أدبية واجهت حقيقة الشعر الجاهلين في العصر الحديث.
وهي قضية الشك فيه، وما دار حول مسألة الوضع والنحل، راصداً مثيرات هذه القضية في جذورها الأولى عند الأقدمين، وفي مثيراتها الحديثة عند بعض المستشرقين وبعض الدارسين العرب، والبحث في ديوان الشعر الجاهلي مفرده، والمختار منه، وفي غير ديوان الشعر في بعض كتب المعارف الأدبية العامة.
ومن اللافت للنظر أن المادة الروائية، والإخبارية والنصية التي اعتمدها المؤلف مادة لدرسه في هذا الكتاب كانت منقولة عن طريق الرواية الشفهية التي كان أحدثها تناولاً بعيداً عن زمن ميلادها، وبيئتها.
ولم يلتفت الأسد إلى المصدر الجغرافي بصفته مصدراً يزيد قضية التوثيق ترجيحاً من حيث البحث عن سلامة النتائج وذلك فيما يتعلق بأسماء بعض الأماكن التي وردت في الشعر الجاهلي.
ولم تكن الدراسات الآثارية، والميثولوجية قد استقرت نتائجها في هذه الفترة التي خرج فيها كتاب الأسد وبخاصة ما يتعلق منها بالجزيرة العربية. فإن في هذه المكتشفات الشيء الكثير مما يساعد على تقريب الصورة الحقيقية لحياة العرب الجاهليين، من حيث مستوى القيمة الحضارية المادية، والمعرفية، وتأثيراتها على المنجز الشعري عندهم في بعديه المعرفي، والفني..
لقد كانت دراسة الدكتور ناصر الدين الأسد لمصادر الشعر الجاهلي من الوجهة التاريخية ذات علاقة بمشكلة كانت قائمة آنذاك وهي مشكلة لها تأثيرها من حيث إعادة النظر في تأصيل كل ما كان يشغل أذهان العرب في هذه الفترة الحديثة من حياتهم لبناء مشروعهم النهضوي العربي على أسس من وضوح الرؤية لتراثهم في خطاباته جميعها، ولمعطيات عصرهم، فجاءت حيوية هذه الدراسة وجديدها من طبيعة مشكلتها القائمة. فقامت غير دراسة لتصحيح الرؤية الشكيّة التي طرحها الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي، وكان أكثرها يتعلق بالتحاور مع منهج طه حسين البحثي وتجاوزاته على المقدس من تراث الأمة العربية.
وقد عده كثير من الدارسين رأس المدرسة التنويرية العربية الحديثة. وهذه المدرسة في رأيي هي التي أسست للخطاب الحداثي العربي المعاصر.
إن أبرز ما في خطاب طه حسين الحداثي التشكيك في المقدس والتشويش عليه، والدعوة إلى التحوّل من فكر قديم إلى فكر حديث يحكمه شرط المعاصرة، ويقوم على نشاط العقل الصانع للحياة، ويقلل من أهمية النقل، وإعادة قراءة النص المقدس قراءة عصرية، والزعم بأن العرب غير قادرين على الابتكار. والتأسيس للنص المفتوح إلى غير نهاية في نظرة طه حسين للأشعار والأخبار المروية عن الجاهليين، والنظر في بعض قصص القرآن نظرة نقدية. وهذه هي العناصر التي قام عليها الخطاب الحداثي العربي حتى يوم الناس هذا. هذا الخطاب الذي يرى الهدم طريق البناء، وبخاصة عند الحداثيين التغييريين. وكان طه حسين في حركة التنوير ينطلق من هذا المبدأ، ولكنه ما كان يهدف إلى التغيير الجذري كما هي الحال عند متأخري الحداثيين.
وقد كانت دراسة الدكتور الأسد لمصادر الشعر الجاهلي من الدراسات الأصيلة في بابها حين اتجهت إلى عمق المشكلة التي أثارها شك المستشرقين وغيرهم من العرب وعلى رأس هؤلاء طه حسين. ولم تكن هذه الدراسة تمثل موقفاً انفعالياً موقوتاً يقوم على رد الفعل المثار حول نحل الشعر الجاهلي ووضعه. لقد قام هذا الكتاب على منهج تاريخي كشف عنه المؤلف في صدر كتابه، وطبقه تطبيقاً علمياً جاداً كشف من خلاله وثوق العلاقة بين مقدمات المنهج ونتائجه ولم يغفل أو يتغافل عن المشكلة التي أثارت هذا الموضوع وهيأته للدرس، وذلك حين ناقش المؤلف في الفصلين الثالث والرابع من الباب الرابع من الكتاب آراء المستشرقين والعرب المحدثين في قضية الانتحال. وليس من البعيد أن التفاتة الدكتور الأسد إلى البحث في أصول الشعر الجاهلي ومصادره قد أثارت بعض الدارسين ودفعتهم إلى البحث في مصادر الأدب العربي بخاصة وفي المصادر عن اللغة والأدب بعامة.
لقد كان بالإمكان أن أتناول بشيء من التفصيل جهود معالي الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد في كتابه القيّم (مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية) غير أن المقام هنا هو مقام تحية وتقدير لهذا الجهد العلمي المتميز الذي أسهم في جزء من حل إشكالية علمية كانت قائمة وقت تأليفه قبل ما يقرب من نصف قرن فكان مرجعاً موثقاً، وموثوقاً علمياً لدى الدارسين الذين بحثوا ويبحثون في مادة الشعر الجاهلي.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2832  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 111 من 204
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الخامس - لقاءات صحفية مع مؤسس الاثنينية: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج