شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
القيثارة في ضوء الشمس (1) ..
بقلم: محمد عبد الواحد
لم يشب. ولم يهرم.. ولم يستكن.. ولم يضعف قط.. إن النهاية لديه هي البداية دائماً.. نقطة انطلاق أخرى لعوالم وعواصف.. وأهوال لا تهدأ أبداً.. إنه كالبحر يتطاول.. ويمتد.. يسحبك من حيث لا تدري إلى كل غموضه وأسراره وإبداعاته.. ويباغتك بوهجه.. بلهبه.. بناره التي لا تنطفئ.. وبكل حميا الألم.. وبكل شموخ الحزن العظيم المهان.. ينتصف فجأة كالمارد.. من بين كل الركام.. أتعبه قلبه.. وأتعب قلبه الأيام.. ومن بين الدموع.. والأحلام العظيمة شاهدته يأتي كالطوفان.. يسكب كل معاناته.. كل عذاباته وكل زحام الأماني العظيمة التي اكتظت في صدره..
عاشق الإبداع هذا يرتجف كعصفور أمام لوحة.. عبارة.. قصيدة عينا امرأة.. ولا يشفى حتى يتحد ويتجذور وينصهر مع كل ما يعجبه.. وهو في صخبه وجنونه أول المحترقين وآخر الفرحين..
وللجفري أيامه الخاصة به.. التي يملؤها وتملؤه.. وله قمره.. وليله.. وهواجسه.. وله طائفة من الجن.. تحتله من قمة رأسه إلى أخمص القدم.. ورغم ذلك فهو الهادئ المتزن.. الصاعد أبداً على كل المحن.. وهو النشوان الحالم الذي يطربه أحلى الكلام.. وهو العازف الوحيد الذي يسترجع كل ملحناته بوله لا حدود له.. وبحسه الفني يدرك أبعاداً وحدوداً أخرى لا تقف عندها اللغة حبيسة عاجزة قاصرة.. إنه يتخطى كل قوالب وقواعد النحويين.. إنه طليق واسع. لم يقف خلف الخليل بن أحمد وإنما وقف أمامه..
بستين عاماً مضت عاشر صاحبي الأموات والأحياء من الإنس والجن.. عشق ولادة.. ومي وابن زيدون والكميت.. والمتنبي.. وأبا نواس.. وديك الجن والشريف الرضي والفرزدق وجرير وتوهج نوراً في بلاط المأمون.. واستراح ذات ليلة على فراش هارون الرشيد.. وبصق في وجه جنكيز خان.. وعانق صلاح الدين وزرع قلمه نصلاً في عيون كل التتار.
ووقف بكل كبريائه الهاشمي كبيراً في أعظم المحن.. له من سمات أهل البيت.. ما يجعله يتخطى عوامل العجز.. والقهر.. فنراه متسامحاً محباً.. لكل الناس.. لم يكره الجفري أحداً ولم يكرهه أحد.. ولكنه محسود بعفة المؤمن فيه وبكبريائه التي تذكرك بأجداده يأسره الجميل ويغضبه الجحود.. حفظ لمن حوله مكانهم فحفظوا له مكانه.. الكتابة لديه نوع من العبادة نوع من الطواف.. والوله والعشق.
لا أحد يدري.. كما أعرف أنا.. أن حجم الدموع التي يسكبها الجفري كفنان مع كل مقال.. أكثر وأكبر من حجم ما سكبه من كلمات على الورق..
لا يهمني ما كتبه بقدر ما يهمني ما أكتبه عنه. إن إنصافي للجفري هو إنصاف لنفسي.. فتفرده وتميزه هما ما جعلاني اختلف عن كل أحد.. ولا أشبه أحداً.. إن صداقتي مع الأستاذ عبد الله جفري عبر ثلاثين عاماً مضت لم تصب بالوهن.. قط.. وإني أعترف هنا.. بأني كنت آخر المواسين له عندما أتعبه قلبه.. وكنت أشفق أن أرى قلباً كبيراً امتلأ بحب الناس يمرض.. لقد تغذت شرايين هذا القلب بعوامل خير كثيرة.. فكيف يمرض؟
لقد عاش الجفري.. أمد الله في عمره.. سيداً وعاشقاً ومبدعاً.. فقد كانت له أخلاق السادة.. وسمو المبدعين.. وجنون العشاق.. وكان صعب التنازلات.. ومازال.. قد يجوع.. قد يشقى.. قد يتألم.. ولكنه لم ينخ.. كبرياؤه أبداً.. وقف أكثر من غراب بائس.. على رأسه.. نشوانا.. وما لبث كل الغربان أن تهاوت عند قدميه.. كانت له جناحا صقر.. وعفة شاهين.. أصيل وشريف.. لم ينهش في جثة ميتة.. قط..
وللجفري.. طريقان.. أحدهما على الأرض والآخر في السماء.. طريقه على الأرض بيننا أشقاه وأتعبه.. وشقه بأظفاره وأدمت قدميه الأشواك والصخور.. ومنزلقات المكر والجحود ومضى به بكل إصرار.. لم تهمه الخسارة أو الكسب في سباق الزيف المزحوم بالأحياء المتكالبين المتناحرين على دنيا بائسة وزائلة.. وفي غالب الأحيان كان للجفري مكان في زحام الأحياء.. وإن لم يكن مكانه الحقيقي.. أما طريقه الآخر في السماء.. فقد اختارته روحه الصافية المحلقة الطاهرة المحبة.. المشعة.. المتوثبة فكان لها مكانها.. بين النجوم التي يصعب منالها.. أو الصعود إليها.. لم يكن أكبر النجوم.. ولم يكن أصغرها.. ولكن إشعاعه المتميز كان ينير مسالك ودروب.. حالكة السواد.. وكان في حربه مع الظلام والجهل.. بارع التميز.. فألف العديد من الكتب وانتزع شرائح أثيرة من داخل صدورنا وصاغها حكايات حميمة.. عشناها ونعيشها.. وتحدث عنا بلساننا نحن.. وبأحلامنا وبكل طموحاتنا في العديد من مقالاته.. وشق على الآخرين.. تواصله المستمر.. فاتهموه بما ليس فيه.. ومضى هو غير عابئ بكل حاسديه يصوغ إبداعاته.. وعندما تعطل قلبه ترك شرياناً سليماً منه لم يتعطل على الورق لم يختف الجفري فترة علاجه.. لقد كان قلبه برغم كل المرض يكتب..
إن لديّ الكثير مما يمكن أن أقوله عن أخي ورفيق دربي عبد الله جفري.. الإنسان.. والكاتب.. والفنان.. في ليلة تكريمه يوم الاثنين القادم في منزل الأستاذ عبد المقصود خوجه.. ولكنني أكره تلك الموائد الباذخة.. والفقيرة معاً فهي استهانة وتدجين مترف لعقولنا وقلوبنا.. وعلى الأستاذ الخوجه أن يجعلها أمسية تطرب فيها رؤوسنا قبل أن تمتلئ بطوننا.. فالتخمة تصيب الناس بالبلادة والخمول ولا يليق بفنان كعبد الله الجفري أن يكرم بموائد الطعام..
وهو من كرَّم على مدى أربعين عاماً مضت عقولنا وأفكارنا.. بأروع وأجمل الكلمات.. وينبغي أن تذهب هذه الموائد أو تكلفتها إلى الفقراء والمساكين.. في الأحياء الفقيرة.. فذلك أقوم وأرشد..
لقد اخترت أن أكرِّم صاحبي بأحلى وأجمل ما لدي وهي كل ما أملك.. إنها كلمات بسيطة ولكنها تفضح جود كل الكرماء وتجعلهم أمامها أقزاماً..
لقد اختار عبد الله الجفري منذ البدء.. أن يكون سيد الطريق الصعب..
واختار أن يكون الرأس.. لا أن يكون الذنب.. في أدبه وخلقه وفكره.. والرأس لا يكرمه إلا ما يطربه من كلمات محقة ومنصفة.. أما الأذناب فيكفيهم من التكريم أبخسه.
لقد عاش الجفري.. والسرحان.. والجاسر.. والزيدان.. والعواد.. والرفاعي.. وغيرهم من عمالقة الأدب في هذه البلاد.. ينشدون الكمال.. ومراحل من الزهد.. لا يرقى إليها الرجال.. إلا بالعفة والقناعة والإيمان.. ومثل هؤلاء ينبغي أن يكرموا بما يترك في حياتهم أثراً كما تركوا في حياتنا أعظم الأثر.
لذا أقترح أن يطلق اسم عبد الله جفري.. وحسين سرحان.. ومحمد حسين زيدان.. وحمد الجاسر.. وعبد العزيز الرفاعي.. ومحمد حسين عواد.. وغيرهم على بعض الشوارع والميادين الرئيسية في مدننا الكبيرة وعلى بعض المكتبات العامة وأن يكون لهؤلاء الرواد دورهم ومكانهم في إعلامنا الرسمي شأننا في ذلك شأن كل بلدان العالم المتقدم..
ومن هنا يصبح للتكريم معنى.. نراه.. ونلمسه.. ويعيش معنا.. ونعيش معه. ولا أزيد..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :457  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 39 من 204
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج