(( كلمة المحتفى به فضيلة الشيخ الدكتور منّاع القطّان ))
|
ثم أعطيت الكلمة لضيف الاثنينية فضيلة الشيخ الدكتور منّاع القطّان فقال: |
- بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.. |
- أيها الإخوة الكرام: في مستهل هذا اللقاء، أحب أن أعرب عن عظيم شكري وخالص تقديري، للأخ المفضال الأستاذ عبد المقصود خوجه، ولسنَّته الحميدة في هذه الاثنينية، وسمعتها طوقت الآفاق لآثارها الطيبة في لقاء الفكر وتدارس العلم، ونماء التوقد الذهني من خلال ما يتم فيها من لقاءات؛ وأشكر الإخوة الأفاضل الَّذين حضروا هذا اللقاء، والَّذين يحضرون اللقاءات الأخرى، إحياءاً لسنَّة الإخاء في الله والحب فيه، وهم يضعون نصب أعينهم ما ذكره الله (تبارك وتعالى) إذ لا يبتغي أحد منفعة لنفسه، إنما يقصد وجه الله: ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار. |
- إن هذه المشاعر التي تكتنفنا في هذه اللحظة، كما تكتنف اللقاءات السابقة في هذا البيت العامر، تجعلني أشعر بالحياء، والحياء شعبة من الإيمان؛ وما سمعته من إخواني الَّذين قدموني أحسست من خلاله لا بما يدعو للزهو والافتخار، ولكن بما يدعو إلى التواضع إحساساً بمعاني الإِسلام التي ورد فيها الدعوة إلى التواضع؛ إنها ترفع من شأن صاحبها: (إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد، ومن تواضع لله رفعه). |
- وإذا كان لي من كلمة مع هذا الحياء الَّذي يفيض عليّ، فإني ألتمسها من خلال ما سمعت من إخواني، إن الحياة النامية المزدهرة في عصور التاريخ الإِسلامي كانت حياة العلم والفكر، والمدارسة؛ وإذا قرأنا في تاريخ الإِسلام عن نهضته وعن تتابع عصور النهضة في فترات من التاريخ، فإننا نجد وراء هذا توقد الفكر، ونشاط العلم والعلماء، والأدب والأدباء؛ لأن هذا الجانب الفكري العلمي هو الَّذي يبصر الأمة بواقعها، ويقدم لها ولمستقبل حياتها صورة مشرقة وضيئة، حتى تهتدي بها في مسارب ما يعرض من مشكلات، وما يلم بها من أزمات؛ وعهدنا فيما أشار إليه أخي المضيف، بالآونة الأخيرة، ينصرف بالدرجة الأولى إلى ما ينبغي أن نهتم به في ترشيد الصحوة الإِسلامية. |
- إن الدعوة إلى الإِسلام هي قوام حياة المجتمع المسلم، وهي الروح التي تسري بين أبنائه، لتأخذ بيده إلى مدارج الرقي وسلم المجد، تحقيقاً لخيرية الأمة التي وصفها الله تعالى بقوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله... ولكن هذه الدعوة التي سرت في تاريخ أمتنا، تعاني في وقتنا الحاضر من منعطفات وعرة ومسالك ضيقة، ولم يكن أمر هذه المنعطفات والمسالك الضيقة قاصراً على ما تعانيه الأمة من داخلها، وإنما يمتد هذا إلى تطاول أمم الدنيا والعالم الخارجي، وقد نقل إعلامنا العربي ما يردده الإعلام الغربي عن الإِسلام وأهله، وعن التخوف منه في المستقبل القريب، ولا سيما بعد أن انهارت الشيوعية وانهار الاتحاد السوفيتي. |
- وأحسب أننا جميعاً - أو أن أكثرنا - يقرأ عن هذا ويتابعه، حتى فيما ألف من كتب؛ والإِسلام الَّذي تميز بالوسطية، وتميزت دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة، في حاجة اليوم إزاء تلك المنعطفات والمضايق، والمآزق، إلى وعي جديد لأولئك الشبيبة من أمتنا، التي نحسن الظن فيها وفي صدقها، ولكنها تقصر عن النظرة البعيدة لمستقبل الإِسلام، فقد تسيء إليه وهي تظن أنها تحسن؛ والعجب من ذلك كله أن التاريخ الإِسلامي في سيرة الداعية الأول محمد صلى الله عليه وسلم يعطينا المنهج الدعوي الرشيد، الحكيم، وأن القرآن الكريم يؤكد لنا هذا إنه حين لا يكون للدعوة قدرة على المواجهة، فإنه يجب عليها وعلى القائمين بأمرها أن يسلكوا مسلكاً يجدون فيه مدخلاً لإيلاج القلوب النافرة، وإنارة العقول التي خيمت عليها أفكار دخيلة على الإِسلام، تصور هذا الإِسلام على أنه مصدر الخوف المرتقب. |
- إن الله (سبحانه وتعالى) يحكي عن رسولنا صلى الله عليه وسلم هذا الأدب الرفيع، وهو يدعو أهل الجاهلية فيقول (سبحانه): وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ورسولنا صلى الله عليه وسلم يعلم علم اليقين أنه على الهدى وأنهم على الضلال؛ ولكنه وضعهم أمام هـذا الخيار: وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، حتى لا يواجههم بما يسيء إليهم، وآيات القرآن في هذا المعنى كثيرة: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، وسلك رسولنا صلى الله عليه وسلم في معاملته مسلك المداراة، والمداهنة شيء آخر. |
- جاءه رجل إلى بيته فسأل فقيل له: فلان، فقال: بئس ابن العشيرة، أو بئس أخو العشيرة، فلما دخل عليه ألان له الكلام، فعجبت عائشة من ذلك وقالت له: قلت فيه كذا ثم ألنت له الكلام بعد؛ فقال لها: - كما جاء في الحديث الصحيح -: "إننا لنهش في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم". |
- وتناول شرح الحديث هذا الموقف من رسولنا صلى الله عليه وسلم ففرقوا بين المداراة والمداهنة، وذكر القرطبي هذا الفارق البين فقال: إن المداراة تكون محمودة استحباباً أو وجوباً، وهي بذل الدنيا لمصلحة الدنيا أو الدين، أو هما معاً؛ أما المداهنة فهي حرام، وهي بذل الدين لصالح الدنيا؛ فتأسياً برسولنا صلى الله عليه وسلم ينبغي أن نسلك هذا المسلك، وأن نبذل من دنيانا ما يعيننا على تحقيق ما نهدف إليه من نجاح الدعوة الإِسلامية؛ وفي السيرة العطرة لهذا النبيّ العظيم، الَّذي نتأسى به، نجده (عليه الصلاة والسلام) وقد استمر في العهد المكي، يطوف حول الكعبة وهي مليئة بالأصنام، كان يشهد الأصنام حول الكعبة، ولكنه لم يحطم صنماً منها، ولم يأمر أحداً من أصحابه أن يحطموها، ولو أمرهم لسارعوا إلى الاستجابة؛ وهاجر (عليه الصلاة والسلام) من مكة إلى المدينة، واستمرت الأصنام حول الكعبة حتى جاء يوم الفتح، فكان يشير إلى كل صنم فيسقط متهاوياً، مع سقوط الشرك ومظاهره، وأعوانه وأنصاره؛ وذلك يعني أنه (عليه الصلاة والسلام) سار في درب الإِسلام الحكيم بدعوته الحكيمة، إلى أن حقق هدفه مرحلة بعد أخرى. |
- وهذا النهج من واجب القائمين على الدعوة إلى الله، أن يرعوه في مسلكهم وفي موقفهم، من الَّذين يعادون الإِسلام، ويحيكون له ما يحيكون من تآمر، ويرصدون ما يرصدون من مراقبة، خوفاً من انتصاره وإعلاء كلمة الله في أرضه، وأحسبنا في حاجة ملحة إلى هذا النهج السوي المعتدل، لنبصر به الصحوة الإِسلامية، حتى نفوت على أعدائنا ما يتخذونه سلاحاً لحرب الإِسلام نفسه، لا في حرب تستأصل رعيلاً من الشباب لا يزالون في سن مبكرة، بل تعطي صورة سيئة عن هذا الإِسلام فيما يصوره الإعلام الغرب ويحاكيه الإعلام العربي، وما يذكر عن الأصولية والأصوليين. |
- وهذه الكوكبة التي تحضرنا في هذه الليلة باسم تكريم صاحب الندوة لي، أعتقد من صميم قلبي أنها كوكبة جديرة بأن تعيد الكرة في احتفاء آخر، لا لشخص حبيب إليها - كما تحتفي في هذه الليلة - ولكن لترشيد الصحوة الإِسلامية، وفتح الأبواب المغلقة الموصدة؛ عسى أن يفتح الله بالدعوة إلى الإِسلام القلوب، والأمل في الله كبير أن نصل إلى هدفنا؛ فقد قال (عليه الصلاة والسلام): "بدأ الإِسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل من هم يا رسول الله؟ قال الَّذين يصلحون إذا أفسد الناس". |
- فالغربة التي نشهدها في أزمة اليوم، وفي هذا المنعطف الوعر غربة يعقبها - إن شاء الله تعالى كما نعتقد - تصحيح المسار وحسن الوجهة، والقصد والوصول إلى ما يصبو إليه كل مسلم، ما استطعنا أن نطهر نفوسنا - جميعاً - لنعيش أخوة متحابين، ننظر إلى الشارد منا نظرة عطف ورحمة وإلى البعيد نظرة ود وأخوة ليجتمع شملنا جميعاً على دعوة الخير ومنهج الخير، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء. |
- وأعود - مرةً أخرى - فأكرر شكري للداعي والمضيف، وشكري للإخوة الَّذين قدموني، وأسأل الله أن أكون عند حسن ظنهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. |
- والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
|