ملامح وسوانح
|
ملامح إسلامية عربية سعودية
(1)
|
|
في سوانح حياة الكاتب: |
يتفنن أهل هذا البلد في اختلاق الأسباب للبذل والمحبة.. فمن يعيش بين ظهرانيهم ـ مثل هذا الكاتب ـ يرى ما يندر أن يجد مثله في بلدٍ آخر من الجهد الدؤوب للبحث عن وسيلة ما، وعن أية ذريعة للتوادد والتنافس في الجود والكرم..! |
فحين يتقلّد أحدهم وظيفة حكومية، أو يرقى إلى درجة أعلى في سلم وظيفته، تقام له الولائم وتمد له الموائد في بيوت معارفه وأصدقائه فضلاً عن زملائه وأقربائه.. ومثل هذا النوع من التكريم يمكن العثور على ما يشبهه في أقطار أخرى.. على نحو من الشدة والضعف.. |
ولكن، وجدت هنا، وجهاً من وجوه الإكرام والتقدير، لم أسمع به ولم أشهده في مجتمع آخر.. وذلك أن أهل هذا البلد يحرصون على التهافت إلى الحفاوة بنفس الرجل الذي بالغوا في العناية به يوم تم تعيينه في وظيفته أو ارتقاؤه مرتبة أعلى فيها.. يحرصون على التهافت إلى الحفاوة به والمبالغة في إكرامه يوم خروجه من الوظيفة بأشد وأعظم مما صنعوا له وقدموا إليه من قبل طلباً لجبر خاطره وتطمينه لئلا يشعر بأدنى قدر من القلق من جراء ابتعاده عن الأضواء.. وهذا الصنيع غاية في النبل والخلق الرفيع..! |
ولأهل هذا البلد العريق في تقاليده الإسلامية العربية، مهارة فائقة في تلمس مختلف الطرق إلى الأريحية المثلى مثل الخروج من المستشفى معافى أو الزواج أو تأسيس شركة أو بناء دار. وعشرات من الأسباب ممَّا لا يسهل حصرها وعدها.. وتتفتق أذهانهم.. وأيم الله عن مداخل وتدابير مبتكرة لإدخال السرور إلى النفوس ومواساة القلوب وتضميد الجروح والعمل على مضاعفة بهجة السعيد ومعالجة غمة الحزين.. فهم جابرو عثرات الكرام كما كان عليه آباؤهم وأجدادهم في غابر الزمان. |
والأمسية التي عرفت بالاثنينية هي نموذج مما أبدعه ويبدعه أهل هذا البلد في إبراز تقديرهم للأشخاص والأعمال.. وبعبارة أصح مظهر من مظاهر تجلّي كرمهم الجم وعواطفهم الإنسانية الرقيقة. |
ولقد سبق لصاحب الاثنينية الأستاذ عبد المقصود خوجه الذي لا يرى نفسه صاحبها، وإنما يراها ملكاً لأهل هذا البلد الطيب، سبق أن كان يدعو هذا الكاتب لحضور تلك الأمسية كلما علم بتواجده هنا في جدة وكان يؤكد له دائماً بأن الدعوة موجهة له لحضور كل الأمسيات واصطحاب من يشاء من أصدقائه إليها.. ولكن الظروف لم تسمح للكاتب بأن يلبي تلك الدعوة الكريمة ويتميع بأمسيات الاثنينية التي تمتاز بنوع طريف من الأدب يلائم تطور العصر وروحه إلا بضع مرات.. ولم يخطر بذهن الكاتب قط، أنه سيقع عليه الخيار في يوم من الأيام، لتختص به إحدى تلك الأمسيات، وأن يحتفى به فيها. |
ولا يحق لي أن آخذ من وقت القارئ الكريم لأقص عليه كيف حصل ذلك.. ولكني أرى من حق هذا القارئ الكريم أن يطلع على ملخص ما دار في تلك الأمسية من أحاديث.. ولربما كان في بعضها أجوبة لأسئلة تجول في مخيلة القارئ يود أن يوجهها إلى الكاتب. |
ومما جاء ذكره في تلك الأمسية ـ مما قد يرغب بعض القراء الكرام في الاطلاع عليه ـ هو أن الكاتب حملته أمه في العراق ووضعته في الكويت فجر التاسع من شهر شعبان سنة 1335. وأن جده الأكبر شد الرحال من أذربيجان في إيران إلى العراق في طلب العلم. وإن الأسرة قدمت للمجتمع الإسلامي عدداً من رجال الدين والفقهاء على مدى أربعة أجيال وأن رجالها ونساءها على إلمام عادة باللغات الإسلامية الثلاث التركية والعربية والفارسية. |
وإن الكاتب تلقى العلوم الإسلامية العربية على يد والده ولم تنتظم دراسته الحديثة إلا في زمن متأخر.. وأنه عمل قاضياً شرعياً ومدرساً وصحفياً قبل أن ينتمي إلى السلك الدبلوماسي.. |
وأن المملكة العربية السعودية كانت أول بلد أوفد إليه الكاتب في مستهل حياته الدبلوماسية كما أنها كانت آخر بلد عمل فيه في ختام مهمة السفارة.. وأنه خدم في العراق وسوريا والأردن. وتيسرت له صلات واسعة بالأوساط الأدبية في تلك الأقطار. وفي دمشق أوكل إليه تدريس اللغة الفارسية في جامعتها باقتراح من الدكتور سعيد الأفغاني رئيس القسم الأدبي فيها ـ بالإضافة إلى عمله كمستشار بالسفارة الإيرانية هناك. |
وأبدى بعض الأفاضل الحاضرين في الأمسية أن الدكتور الأفغاني مقيم في المملكة حالياً ويتولى التدريس في بعض جامعاتها. |
وكان ممن منح الكاتب شرفاً بحضوره وأضفى على الحفل مزيداً من البهاء والوقار، صاحبا المعالي الوزيران السابقان الأستاذ عبد الله بلخير شاعر الأمة الكبير والأستاذ محمد العوضي الأديب المعروف والسيد هاشم الزواوي الشخصية الأدبية والاجتماعية البارزة وتجمع الكاتب بالثلاثة صلة معرفة وصداقة قديمة تربو على ثلاثين عاماً.. واتخذ الكاتب من تفضلهم بحضور الحفل مناسبة ليشير إلى أنه لم يلحظ في أي وقت ما، أن حسن الوفادة في هذا البلد المضياف يتقيّد بحدود المركز الرسمي وبدرجات السلم الإداري. وأوضح أنه حين وفد إلى هذه البقعة الخيرة في أوائل الخمسينات كان يقتعد أدنى درجة في السلك الدبلوماسي ولكنه وجد من السادة الأفاضل عبد الله بلخير ومحمد العوضي والسيد هاشم الزواوي ـ وكانت لكل منهم مكانته المرموقة وقتها ـ كل محبة واهتمام. وأكثر بكثير مما يتناسب مع مستوى الكاتب الدبلوماسي.. كما شمله بالعطف والرعاية آخرون كثيرون مثل خير الدين الزركلي والسيد عمر السقاف رحمة الله عليهما، والأساتذة طاهر رضوان وكان وقتها وكيلاً لوزارة الخارجية ومندوب المملكة حالياً في جامعة الدول العربية وفيصل الحجيلان وزير الصحة وجميل الحجيلان سفير المملكة في باريس ومحمد المحتسب وترأس كل منهما دائرة المراسم في وزارة الخارجية ردحاً من الزمن في تلك الأيام كما ترأسها السيد عمر السقاف رحمة الله عليه. |
وأشار الكاتب إلى أنه أفاد غاية الإفادة من الجو الأدبي المتألق هنا وتوطدت الصداقة بينه وبين عديد من الشعراء والأدباء ولا سيما السفير الشاعر حسن عبد الله القرشي. |
وكان لسمو الأمير عبد الله الفيصل ـ وكان حينها وزيراً للداخلية ـ فضل كبير على هذا الكاتب حيث كان سموه يفسح له المجال بأن يحضر مجالسه الأدبية كما كان يمد إليه يد العون لتسهيل شؤون الإيرانيين من مقيمين وحجاج. |
وكان ممن زاد في أفضاله على الكاتب بتشريفه الحفل دولة الشيخ أحمد نعمان عضو مجلس رئاسة الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء سابقاً في الجمهورية العربية اليمنية. |
وكان حضوره مناسبة ليسرد الكاتب بعضاً من ذكرياته عن الأيام التي كان فيها سفيراً غير مقيم لدى صنعاء.. وعن الليل الحالك المطير الذي زار فيه النعمان في بيته البسيط في مدينة ((تعز)) وعن نجله محمد أحمد النعمان رحمه الله الذي كان وزيراً للخارجية في ذلك الحين واغتالته فيما بعد يد الغدر في بيروت. وكان ذلك إيذاناً ببدء اضطرابات خطيرة في بقاع شتى من العالمين الإسلامي والعربي.. ولم تنته إلى يومنا هذا مع الأسف الشديد. |
ولمح الكاتب إلى موضوعين في حديثه: أحدهما أنه أينما ذهب في العالمين العربي والإسلامي، لم يجد فرقاً كبيراً في الأخلاق الإسلامية السامية التي تتصف بها المجتمعات العربية والإسلامية كافة وصادف أن سمع نقداً لبعض الأقطار قبل أن يذهب إليها. ولكنه حين ساعده الحظ بأن يراها ويقيم فيها بعض الوقت، لاحظ أن أهلها يتمتعون بنفس المزايا الحسنة التي تتحلى بها جماعات أخرى من الأمة الإسلامية. |
ومن المهم جداً أن يحب الإنسان عن صدق القوم الذين يعيش بينهم. فمثل هذا الحب يفتح له الصدور والأبواب ويمهد له سبل التعامل الناجح معهم، ويخلق التعاطف العميق البهيج بينه وبينهم، ويساعد هذا الحب الصادق على تعلم لغتهم ولهجتهم ـ إن لم يكن ملماً بهما ـ بسرعة مذهلة. |
ومن البديهي، ألا يتوقع الإنسان الحب والعطف من الآخرين، إذا لم يكن كلفاً ورؤوفاً بهم ولا يحس بعاطفة قوية نحوهم في أعماقه. |
والموضوع الثاني الذي جرت الإشارة إليه هو أن الشغف بالأدب نفع الكاتب كثيراً في مهامه الدبلوماسية حيث إن الأدب خير معوان على التعمّق في معرفة أحوال المجتمع الذي يتعامل معه الدبلوماسي، والاطلاع على تراث ذلك المجتمع وسبر أغواره، وإرساء قواعد متينة للعلاقات الودية والتعاون البنّاء بين ذلك المجتمع والبلد الذي يمثله ذلك الدبلوماسي. |
ومما ذكره الكاتب أنه حاول في حياته أكثر من مرة ممارسة الأعمال التجارية لكنه فشل في كل مرة خلافاً للعمل في الصحافة والسلك الدبلوماسي. فقد واتاه التوفيق فيهما بأسرع مما كان يتصور. |
وكانت آخر مرحلة من مراحل حياة الكاتب الدبلوماسية تمثيل بلاده في المملكة. وقد استفاد كثيراً من الصداقات القديمة التي كانت تربطه من قبل بالمسؤولين وغير المسؤولين هنا ولمس منهم كل تأييد وتعضيد في إنجاح مهمته لدعم الصلات الأخوية بين الجارتين المسلمتين.. مما أدى إلى إبقائه في مهمته هنا أكثر من الفترة المعتادة.. |
وبعد انتهاء مهمته، لم ينه أولئك المسؤولون وغير المسؤولين صلتهم الودية به.. وإنما ازداد تعطفهم الأخوي عليه.. ولا غرابة في ذلك فهم يهرعون إلى نجدة من يكبو جواده أكثر من تمجيدهم لمن يجلّي حصانه في الميدان.. وكان جلالة الملك فهد المعظم حرسه الله الأسوة المثلى دوماً في صفات المروءة والأريحية لشعبه.. وسبق في أول المقال الكلام عن الكرم الأصيل لدى أهل هذا البلد الذي ضرب بجذوره في أعماق هذا المجتمع الإسلامي العريق.. ذلك الكرم النبيل الذي يرعى من يهوى ويسقط كما يربت على كتف من يعلو ويصعد. ودعوة الأستاذ أياد مدني الكاتب للكتابة في عكاظ كما هو قائم في الوقت الراهن وعرض الأستاذ علي حسين شبكشي عليه التعاون معه من قبل، نموذج لما تمتع ويتمتع به من رعاية حانية في هذا البلد. |
وفي الختام علق بعض الأفاضل على الحديث، فتفضل دولة الشيخ أحمد نعمان فشرح بأسلوبه العذب السلس في البيان، مرصعاً بدرر الآيات والحديث والشعر. شرح كيف امتد حبل المودة بيننا ـ خارج السلطة بحسب تعبيره ـ بأمتن مما كان عليه ونحن في السلطة.. |
وحكى السيد هاشم الزواوي عن ذكرياته حول تعاون الجهات المسؤولة في دوائر الحج مع الكاتب وزميلين آخرين له توفاهما الله لتيسير شؤون الحجاج الإيرانيين.. كما أومأ ـ جزاه الله خيراً ـ إلى أن الكاتب واجه في حياته مصائب ومصاعب لكنه لم يشأ في تلك الأمسية إلا أن يعرض الجوانب السهلة السارة من ذكرياته.. |
أما عريف الحفل أو مقدم البرنامج الأديب الفاضل الأستاذ حسين النجار فقد كان حسن الظن بالكاتب إذ سأله كيف يختار الأبحاث والكتب التي يترجمها من العربية إلى الفارسية أو بالعكس..؟ وكان الجواب أن ظروف الزمان لم تمنح الكاتب إلى يومنا هذا أية فرصة مواتية لانتخاب ما يرغب من سويداء قلبه في ترجمته.. وكان للحاجة الماسة ببساطة ـ دائماً القول الفصل في إملاء نوع المادة التي اضطر إلى ترجمتها، مثال ذلك أن إحدى دور النشر في إيران طلبت منه نقل كتاب ((اللقيطة)) إلى العربية ففعل.. والبحث الوحيد الذي أقدم على تعريبه برغبة شخصية منه كان بحثاً فلسفياً عن ((الحركة الجوهرية)) نشرته له مجلة الدراسات الأدبية التي كانت تصدرها الجامعة اللبنانية باللغتين العربية والفارسية في بيروت وكان من الحاضرين في الأمسية الباحث الكبير الدكتور صلاح الدين منجد الذي كان على اتصال وثيق بتلك المجلة الفصلية وبالمشرفين على تحريرها مما أوجب الإيماء إلى ذلك. |
هذا ملخص ما دار في تلك الأمسية التي كان لا بد من إشراك القرّاء الكرام في الاطلاع عليه ولا سيما قد تفضلت عكاظ فاهتمت ـ كعادتها المشكورة ـ بأمر الأمسية التي ترتبط بالماضي المتواضع لأحد كتابها فنبهت إليها أكثر من مرة. |
ويعتقد الأستاذ عبد المقصود خوجه أن الناس اعتادوا أن يكرموا الكتّاب والشعراء والفنانين والعلماء وأمثالهم من خدام العلم والفن والثقافة. اعتادوا أن يكرموهم بعد وفاتهم فيدبجوا المقالات في ذكر مآثرهم ويبدوا الأسف على رحيلهم من الدار الفانية إلى الدار الباقية ويترحموا عليهم.. ولكنه ارتأى أن يقدم على تكريم أهل الرأي والبراعة والفن وهم على قيد الحياة. |
ويقرن الأستاذ عبد المقصود خوجه فعاليات تلك الأمسية بالعشاء الفاخر للمدعوين. ويتم تسجيل الأحاديث والمناظر والأشخاص بالأشرطة والفيديو والتصوير الفوتوغرافي ليوضع كل ذلك تحت تصرف من يشاء ممن يعد بحثاً عن تاريخ حياة بعض من احتفل بهم في تلك الأمسيات وذكر لي صاحب الدعوة أن عدداً من الطلاب والطالبات يكبون حالياً على دراسة بعض وثائق تلك الأمسيات لإعداد بحوث ورسالات عنها. وفقه الله في مسعاه. |
|