شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
من حديث الأمس
الرحيل الصامت (1)
بقلم: عبد الفتاح بومدين
ـ قضى الأستاذ كنعان الخطيب.. رحمه الله في شهر المحرم 1405هـ، ومن الوفاء للرجل أن نذكره وأن ندعو له. وأن نقول رحمه الله.
ولم أقرأ سوى قصيدة رثاء، جاد بها الأخ الصديق محمد علي قطب. والأستاذ قطب وفيّ لأصدقائه وفاءه للأدب والأدباء.
ولعلّ آخرين من أصدقاء المرحوم ((كتبوا عنه وفاتني أن أرى ما كتبوا)).
وقد أصبحنا نعيش حياة.. لا يلم فيها الصديق بصديقه. ولا حتى الأخ بأخيه إلا لماماً..
ونفاجأ.. كما هي طبيعة الحياة، بأن فلاناً رحل وفلاناً نزل بساحته مرض.. فبرىء. أو أنه ما زال تحت تأثير الداء.
الحياة أهمت الناس وأشغلتهم، وصرفتهم عن الكثير من سبل الخير.. وأداء الواجب.. والسؤال عن الأخ وعن الصديق خير وواجب، وحين تصبح الدنيا.. أكبر هم الإنسان، تصبح الحياة تافهة حقيرة، لا قيمة لها ولا طعم ولا مذاق.
فهي حياة آلية، خلت من القيمة، ولم يبق لها منها إلا الاسم، وإنما قيمتها التي يعول عليه هي المادة. يلهث الإنسان وراءها.. لا يلوي على شيء وينسى كل شيء. وينصرف عن كل شيء، سوى المادة تشغله حتى عن أهله وولده.. فأي حياة هذه تبث لها.
عرفت المرحوم.. الأستاذ كنعان الخطيب أيام كان في وزارة الإعلام مستشاراً. لم اختلط به وإنما.. كنت أراه من بعيد.. أراه نازلاً من مكتبه عبر سلم الوزارة رافعاً رأسه إلى أعلى. لا يكلم إلا من يكلمه. وربما لا يختلط إلا بالقليل، وبعض الذين يتصل عمله بهم.
وفي خطب جلل، كتب الأستاذ.. يرحمه الله قصيدة رثاء، رأيتها أنها دون المستوى، ولا سيما قد صمت وقتاً غير قصير بعد الخطب.. الذي قال القصيدة فيه، فانتقدت القصيدة في ((العدد الأسبوعي)) من جريدة عكاظ.. يوم كنت مشرفاً على هذا العدد، وكتب الأستاذ كنعان رداً، ذيله بتوقيع ((قارئ)) وبعث به إلى مدير المؤسسة العام لعكاظ وأحاله إلي قائلاً: هذا رد بعث به الأستاذ كنعان، وكان رد فيه قسوة وهجوم، لعلّ المرحوم استكثر أن أنتقده.
ونشرت الرد، وعقبت عليه بكلمة لا تخلو من القسوة. تعرضت فيها إلى قصيدة كان قد ألقاها في اليابان.. حين رافق الملك فيصل رحمه الله في زيارته لليابان.. قبل بضع عشرة سنة كانت القصيدة على غرار قصيدة حافظ إبراهيم التي مطلعها:
لا تلم كفّي إذا السيف نبا
صح مني العزم والدهر أبا
ونشرت القصيدة في جريدة عكاظ وكانت عليها بعض المآخذ.
وحين عقبت على رد الأستاذ الخطيب قلت إذا شاء الأستاذ كنعان أن نبسط الحديث أو أن نتوسع فيه معه، فإني سأورد قصيدته.. التي قالها في اليابان.. وأبين عيوبها وقد قسرني على هذا العنف الأستاذ نفسه، رحمه الله فسكت ولم يجب.
وترك وزارة الإعلام.. يوم تقاعد وقابلته عرضاً في مالية جدة. فسلمت عليه. ووجدته ما زال جرحه ينزف مما كتبت. فقال: أنت هزأتني، وكبر علي أن أسمع من شيخ كبير هذه الشكوى. وهذا الألم الذي انحفر في نفسه. فشق على نفسي ما سمعت، ولم يسعني إلا أن استسمحه. وأن أرجوه نسيان الماضي. وعفا الله عما سلف. ورضي الرجل، ولعلّ نفسه طابت بعض الشيء. ولا أظن أنها صفت الصفاء كله.
وكنا نتلاقى أحياناً، فأسلم عليه في تقدير وحرارة. عسى أن يمحو هذا الأسلوب.. الذي أجنح إليه تلك السيئات.
ثم كنا نلتقي في دار الصديق الكريم الوفي.. عبد المقصود محمد سعيد خوجه. في كل يوم اثنين تقريباً، خلال الموسم الحافل.. الذي يعنى فيه الصديق عبد المقصود بتكريم الأدباء، وهي سنّة كريمة، سلكها الأخ العزيز شكر الله له هذا الفضل العظيم.. وأحسن إليه كفاء هذا الصنيع، الذي يتسم بالوفاء والحب للأدب والأدباء، وليس غريباً على ابن أديب مرموق رحمه الله، أن ينهج سبيل الفضل وأن يحسن إلى تلك الشموع.. التي أعطت من ذاتها وهو الاحتراق، ليرى الآخرون طريقهم في مسالك الحياة من خلال هذا الضوء الموقد على الصوى، من غير منّ.. وبلا مقابل. ولكنه الواجب والوفاء للوطن يذوب الأديب ليؤدي رسالته.. إلى مجتمعه، في إيثار ورضا، بل وفي صمت.. إن صح هذا التقدير..
فقليل هم الأدباء الخلَّص الذين يشكون ريب الزمان، ولكنهم يقدمون تجاربهم وفكرهم إلى أهلهم. سعداء بما يصنعون، بل إن الأديب المطبوع ذا الخلق والأدب أخلاق قبل أن يكون فكراً. فالمكتبات والأرشيف مخزون كبير من المعارف. لكن الأديب إذا كان ذا خلق رفيع انتفع بأدبه الناس وانتفع هو بالذكر الحسن. وأدب بغير خلق مثل القنديل على قبر المجوسي. لا يجديه شيء.
الأديب الحق، يرى دائماً أنه لم يقدم شيئاً يستحق أن يذكر وأن يشكو وأنه لم يرض على ما قدم. ولم يقدم بعد.. ما يريد أن يحققه وأن يصل إليه.
هذا الاستطراد.. جاءني وأنا أتحدث عن المرحوم الأستاذ كنعان الخطيب، الذي أدركته المنية، وذهب في صمت، وكأن الحياة هكذا ينبغي أن تكون سفراً في صمت. أو سفراً بليل والناس نيام. الذي يأتي دوره يمشي. وقد لا يدري به حتى أقرب الناس إليه.
إلا بعد أن يقضي، وبعد أن يوارى في التراب وتمر أيام. تطول وتقصر، ولا يعلم عنه من ينبغي أن يعلموا، لا ليردوه إلى الحياة من جديد، فهذا ليس في قدرة البشر أو الجن ولكن لكي يشاركوا في العزاء. وليوفوا لمن مضى، ذلك هو ما ينبغي أن يكون امتداداً لصلة. ولا يكون ذلك إلا من وفاء. واليوم أصبح الوفاء سمة نادرة وعزيزة المطلب، والوفاء لا يقدر بثمن أو هدية. ولا ينال عرضاً. ولكنه طبيعة. ثم حمل النفس على أن تتزين به وأن تعشقه. وأن تتجمل بهذا الجمال والخلق العالي ورحم الله القائل.
كلانا غنيُّ عن أخيه حياته
ونحن إذا متنا أشد تفانيا
رحم الله الأديب الشاعر كنعان الخطيب وأحسن إليه. وغفر له، وأرجوه جلت قدرته أن يغفر لنا ولأمتنا، وأن يتجاوز عن سيئاتنا، إنه هو البر الرحيم ولا حول ولا قوة إلا به.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :468  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 9 من 204
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.