النقد شيء والشخصيات شيء آخر
(1)
|
كتب الأديب (محمد أفندي راسم) مقالاً بالعدد الماضي تحت عنوان (من هو الغربال)؟ ملأه بما أملت عليه نفسه من تحقير واستهزاء وشتم ثم ختمه بالتهديد والوعد والوعيد (حط في الخرج). |
حضرة الأديب عفا الله عنه يريد أن ينقد مقال الغربال المنشور تحت عنوان (الكشف الطبي ضروري للمتزوجين من الرجال) ولكنه هداه الله ضل الطريق فبدلاً من أن ينقد المقال ويحلله ويظهر نقاط الضعف التي فيه، تركه ظهرياً ثم راح يستفسر عن شخصية الكاتب فصورها كما أراد ثم تطاول فشتم حتى أشفى غلته (ألف سبة ما تشق قميصاً). |
من المصائب التي بلي بها بعض الكتاب ولا أقول كلهم أنهم يجعلون النقد سبباً لتنفيذ غايتهم وشفاء لما في صدورهم من غل، ثم يقولون هذا النقد فنجدهم بدلاً من أن يدحضوا قول من رد أو نقد كتاباته وآدابه بالحجة الدامغة يتركون ذلك وينهلون على الكاتب بالشتم والسخرية وقد أتبع حضرة الأديب محمد أفندي راسم عن سهو في مقاله هذه الخطة فغضب، وزمجر، وسخط، وشتم، عفا الله عنه وسامحه. |
النقد مقدس ولكن إذا كان بريئاً، أما إذا اتخذ منه طريق لتنفيذ شهوة في النفس لا أكثر ولا أقل فإن ذلك يعد ذلة وخسة أجل عنهما حضرة الأديب لأنهما من العيب والعار الذي يجب أن يترفع عنهما كل واحد. |
يجب على الناقد البريء أن يناقش خصمه بالحجة ويفند آراءه بالبينة ويظهر له خطأ ما دعاه، أما كونه يقول له أنت مخطىء دون حجة، وبغير بينة فهذا هو عين الخطأ. |
إن الناقد إذا نقد أقوال خصمه بحرية تامة، ودمغ أقواله بالحجج القوية يكون قد أحسن إلى نفسه وإلى الجميع ثم يجب على مُريدي المصلحة ألا يترفعوا عن قبول الحق، بل يقبلونه برحابة صدر وسعة خاطر شاكرين له صنيعه، بل يقبلونه برحابة صدر مقدرين له جهده، ولو سار حضرة الأديب (محمد أفندي راسم) على هذه الخطة لشكرت له عمله، ولأكبرت له مجهوداته ولقدرت له إخلاصه، أما أن يترك النقد جانباً ويتناول شخصية الغربال بطريقة لا تتفق مع آداب الكتابة فأمر لا يقره عليه عاقل. |
أعود بعد هذا فأستسمح خاطر الأديب لأناقشه في ما زعمه من جهة الكشف الطبي غاضاً النظر عما كتبه من تحليل شخصيتي ومعارفي، ومبلغ كتابتي لأن ذلك ليس له عندي من الأهمية بمكان ما دمت أدري بما في نفسي وما دام المثل العربي يقول: (مهما تبطن تظهره الأيام). |
يقول حضرة الأديب إن الكشف الطبي غير موجود في أوروبا وإنهم حاولوا تطبيقه فلم يفلحوا فلأجل ذلك يجب علينا أن نتركه نحن أيضاً لأن أوروبا لم تسبقنا إليه، هذا معنى ما رد به الأخ العزيز في ما يتعلق بالموضوع ومع كون هذا القول فيه ما فيه من مخالفة للحق والحقيقة إلا أني أسلم لحضرة الأديب ذلك جدلاً وأناقشه من الوجهة الثانية فأقول أي رابطة تربطنا بأوروبا؟ وما هو المانع من كوننا لا نقبل على أمر إلا بعدها؟ من الخطأ والخطأ المهلك أن نبقى مكتوفي الأيدي عن أي عمل لا تسبقنا إليه أوروبا وإذا طبقنا هذه النظرية على أنفسنا وبقينا تحت رحمة أوروبا فستقضي علينا أوروبا بخيلها ورجلها ونحن متوسدون الأرض لا قدر الله. |
أوروبا يا أخي تعمل لمحونا، تعمل لهلاكنا، تعمل لتمزيقنا، فإذا لم ننافسها ونسير معها حذو القذة بالقذة لنجحت ((لا قدر الله)) وفشلنا ولا سمح الله ولماذا لا نقدم على شيء إلا بعدها لماذا نقبل أن تكون هي السيدة السائدة وهي وحدها المتفننة المخترعة؟ لماذا؟ كما لأهل أوروبا رؤوس لنا رؤوس وكما لهم أفكار لنا أفكار وإنما هم سمعوا ومهدوا فتقدموا ونحن تقاعسنا ونمنا فتأخرنا وإذا عملنا اليوم واجتهدنا ونافسناهم في كل شيء فسننجح أما إذا بقينا متمسكين بمثل ما تفضلت به فسنتأخر دون شك فأيهما أجدر. |
إن أوروبا ما بلغت الشأن الذي هي فيه إلا بعد أن كدت وجدت ولو بقيت تنظر غيرها يخترع وغيرها يتفنن ثم تأتي هي فتأخذ عنه ذلك لكانت اليوم نعمة في دياجير الجهل ولما رأينا لها هذه الصولة ولما سمعنا لها بهذا الصيت ولما قلت أنت ما قلت، أوروبا تعرف من القديم أن لا حياة لها إلا بمتزيقها، والشرق مع الأسف أصبح يعتقد أن لا حياة له إلا بمنافسة أوروبا والقضاء عليها فهل بعد هذا يحق لنا ألا نقدم على أمر إلا بعد أن تسبقنا إليه أوروبا؟ وهل هذا دليل على الحياة؟ لنرجع قليلاً إلى ما به (أي الغربال ((قبل أن يدلي برأيه في شيء أن يشيد دعائمه منعاً من التهافت والانفراج كان حضرة الأديب يقول: (وإذا كان الكشف الطبي مقصوراً على الرجال دون النساء فلا فائدة منه) وهو اعتراض جميل لو سلم من السخرية، وحضرة الأديب محق في بعض الأمر ولكنه نظر بعين واحدة إلى جهة واحدة وترك الجهة الثانية وأغمض عينه عنها. |
وقد نظرت إلى تلك الجهة التي نظر إليها ((وهي مسألة النساء)) ورأيت من الإصلاح إسدال الستار عليها لأن الأفكار والمعارف في الحجاز لم تبلغ درجة التعرف للنساء وهم يرون أن بحث ذلك جرم لا يغتفر ذنب فاعله هذا من جهة ومن جهة ثانية هن بعيدات عن الأشياء التي تسبب الأمراض، والعارف لا يعرف لذا وذاك عدلت عن ذلك ووضعت هذه الجملة الاعتراضية (ولا أقول للزوجة معه لأسباب لا تخفى على من تدبر وتبصر، الذي لا شك في أن ذكاء الكاتب قد عرف مضمونها إذ هي تدل على ما كان ينتابني من الأفكار في هذه الوجهة، والظاهر أن الأخ المحترم أحب أن يتجاهل ذلك. |
هذا هو السبب الذي جعلني أقول باختصار الكشف الطبي على الرجال دون النساء عملاً بذلك المثل (ما لا يدرك كله لا يترك كله) أما كونه إذا اقتصر على نوع دون الآخر فيكون عديم الفائدة فهذا بعيد عن الصواب لو قال حضرة الأديب تكون الفائدة غير تامة لسلمت له بذلك لأن الأمراض ليست محصورة في النساء دون الرجال لا.. بل هي في النوعين اطلب من الأطباء الموجودين في الحجاز أن يتفضلوا بكتابة كلمة عن هذا البحث لأنهم أصحاب خبرة ودراية وختاماً أستسمح خاطر حضرة الأديب إن حصلت مني هفوة لم أقصدها أو زلة لم أتعمدها شاكراً له ما تفضل به علي وما أسداه إلي من جميل ومعروف هدانا الله سواء السبيل. |
مكة المكرمة: (الغربال)
|
|