حول مقال أديبنا المجهَر
(1)
|
اللَّهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. |
والله إنه ليسرني أن نرى كل يوم كاتباً جديداً يطلع علينا من أبناء هذه الأمة الإسلامية العربية ويطرق مواضيع حياتنا الاجتماعية أو السياسية أو الأدبية لبحثها، والله إنه ليسرني ذلك لأنه دليل على الشعور بالحياة والتطلّع إليها هذا من جهة، ومن جهة ثانية نحن في حاجة إلى الإكثار من أولئك الكتّاب ليبحثوا أحوال حياتنا من جميع نواحيها فيقوِّموا المعوج ويعدلوا المائل كما أنه يسرني أن أرى كتّابنا يتناولون كل ما يكتب عنا بالنقد البريء.. فيمحصونه ويلفظون منه الغث حُبًّا في بقاء ما يفيد الأمة ويعود عليها بالنفع. كتب أحد أدبائنا في العدد 19 من جريدة ((صوت الحجاز)) الغرّاء مقالاً تحت عنوان (العمامة والتواليت) يرد فيها على الكاتب تحت عنوان ((العمامة)) بالعدد 15 من جريدة ((صوت الحجاز)) الغرّاء وبتوقيع م. ح. الفلاحي، وعلى مقال الغربال تحت عنوان التواليت المنشور بالعدد 388 من أم القرى وخرج بالنتيجة من جهة التواليت أنه سنّة وأن الغربال يطالب بموتها هذه نتيجة مقال أديبنا المجهر سامحه الله وعفا عنه. |
فعليه أثبت بهذا لا حباً في الجدل فإني أبرأ إلى الله من ذلك بل لأبيّن وأوضح الحقيقة ثم لأديبنا المجهر الحرية إن شاء أن يسلم بها، أو شاء أن يبقى مستمسكاً برأيه كما أن للقارئ حق التمييز والاعتراض أيضاً. |
العِمامَة |
مقال أديبنا م. ح. الفلاحي (الذي يعترض عليه أديبنا المجهر) يدعونا فيه إلى لبس العمامة لأنها وردت في السنّة من جهة، ولأنها عادة العرب من جهة ثانية وهذا شيء لا يحتاج إلى جدل، ولا إلى مكابرة، ونفس أخينا المجهر يقرّ بذلك في كون لبس العمامة من السنّة، ثم يرجع فيقول إن المسألة مباحة وذوقية وما دامت كذلك فالأولى أن نفكر في توحيد الزي وبالأخص لبس الرأس فيكون مناسباً لمناخنا وبيئتنا ووطننا ومالية وسطنا، جميلاً جداً. |
نحن مسلمون وعرب قبل كل شيء، وأديبنا المجهر مسلّم بأن لبس العمامة من السنّة فهذه الجهة قد اتفقنا عليها فلا حاجة لبحثها بقي أن ننظر إلى لبس العمامة من جهة عادة العرب نحن مجبورون على اتباع عادة العرب في زيهم حفاظاً على كياننا العربي أن يدخل إليه ما يخل به فيندثر وعادة العرب في ما يلبس على الرأس هي ((العمامة)) وهم يفتخرون بها وقد ورد ذكرها في أشعارهم بكثرة، قال شملة بن أخضر الضبي.. |
إذا لبسوا عمائهم طووها |
على كرم وإن سفروا أناروا |
|
وقال الكناني: |
تنخبتها للنسل وهي غريبة |
فجاءت به كالبدر خِرقاً
(2)
معمما |
|
وأشعار العرب ملأى بذكر العمائم والافتخار بها، كما أن للعرب في لبسها أشكالاً مختلفة وما دام العرب الذين هم آباؤنا ونحن أبناؤهم وننسب إليهم، ونفخر بهم، وبعاداتهم في ما يلبس على الرأس (العمامة) فلماذا نترك عادة أبائنا وأجدادنا ونذهب نفتش على زي لنا خلاف الزي العربي لنتفق عليه من جديد ونجعله زيًّا لنا لسنا في حاجة إلى ذلك ونحن أغنياء بزينا العربي عن اختراع زي جديد لنا لا يعلم إلا الله ما يجري علينا من تقاليد ومصائب، ثم إن حاجتنا إلى المحافظة على شعارنا العربي أكثر وأعظم من غيره أما كون الإمام الشيخ محمد عبده قال: |
ولكن ديناً قد أردت صلاحه |
أحاذر أن تقضي عليه العمائم |
|
فقوله هذا لا يدل على أن لبس العمائم يقضي على الدين، بل يدل على أن الأشخاص الذين يفسدون في زمنه من المتعممين هم الذين يخشى منهم أن يقضوا على الدين بخرافاتهم وبدعهم وضلالهم. أما العمامة المسكينة فما ذنبها؟ ثم لو كان سر التقدم برفض العمامة لما كان الشيخ محمد عبده نفسه يلبسها ولوجدناه أول من رمى بها وصرح بعدم صلاحها كما أن محافظته على العمائم لم يكن لكون التقدم معقوداً بناصيتها لا، أبداً بل لكون لبس العمامة أو غيرها من عادات العرب الذين ينتسب إليهم، والذين هو منهم لذلك كان رحمه الله شديد المحافظة عليها حتى في أسفاره إلى البلاد الأوروبية. ونحن بدلاً من أن نكره العمامة نكره الأشخاص الذين يفسدون باسم العمامة أو غيرها إذا تحققنا فسادهم وتأكدناه وهو الذي يقصده الشيخ محمد عبده. ثم لنفرض الآن أننا تركنا لبس العمامة واخترنا إحرام الرقبة أو غيره فماذا تكون النتيجة؟ هل ذلك يغيّر من أخلاقنا؟ ليس الموضوع يا عزيزي المجهر العمامة ولبسها، وإنما الموضوع إصلاح نفوسنا وتهذيب أخلاقنا والسعي في ما يفيدنا، وما العمامة وغيرها مما يوضع على الرأس الأخرق لا تضر ولا تنفع ولا تقدم ولا تؤخر. ونحن إذا تمسكنا بالعمامة فإن ذلك أفضل من أن نتركها وأنها تاج العرب ومن تراث الأجداد فيجب أن نجلّها ونعظمها ونحافظ عليها ما دمنا ندعي العربية. |
ثم أسألك يا عزيزي المجهر أن تخبرني عن إحرام الرقبة الذي أحلّه بعضنا محل العمامة والذي اصبح علامة فارقة بين النشء الجديد ((أو الشبيبة)) وبين الرجعيين والشيوخ من أين جئنا به وأي أمة قلدناها فيه؟ ما هو الداعي لوجوده وانتشاره بيننا ليس لديك جواب إلا أن تقول إن كره الشبيبة في العمامة ولبسها، والنظر إليها بأنها هي كل التأخر حبب إلينا إحرام الرقبة ليكون علامة فارقة بين.. |
العمامة كشف شبهات
(3)
: |
اطلعت على مقال الفاضل (م. ح. الفلاحي) الذي صوّر العمامة بأجمل صورة داعياً فيها إلى إحياء سنّتها ثم كتب (المجهر) يرد عليه فردّ عليه (الغربال) بما لا يخفى على القرّاء لم يستلفت نظري إلا ردّ بتوقيع (المهدي) الكاتب الأول لدعوته إلى إحياء هذه السنّة بدلاً من تلطف يليق بمن كان ذا نية سليمة ودعوة إلى الله خالصة فبدلاً من كل ذلك قال له (يا ليته ترك الأمر لأهله) ولا نعلم من هم أهله أهم أمثال حضرته الذي برهن بمقاله هذا على عدم اطلاعه على شيء في علم أصول الحديث رغم ما يهمس به مقاله في أذن القرّاء بأنه ذو اطلاع واسع فهو يذكر أسماء كثير من الفقهاء والمحدثين والمؤلفات ثم يقول بعد ذلك (فيا ليت كل واحد منهم وقف عند حده ولم ينازع الأمر أهله ولم يخض بما لا علم له به) يحمل المهدي حملة شعواء على الكاتب الأول بحجة أنه ذكر أحاديث ضعيفة قائلاً إنها لا تحل روايتها إلا للرد عليها وأساس هذه الحملة وأمثالها الجهل بما أجمع عليه علماء الأمة من أن الأحاديث الضعيفة يحتج بها في فضائل الأعمال فعذر الكاتب الأول إلى القرّاء الكرام، إن المهدي لا يدري أيضاً بأن الأحاديث الضعيفة إذا انضم بعضها إلى بعض ترتقي إلى مرتبة الحسن فحينئذٍ نذكر للاحتجاج بها للردّ عليها وقد ذكرها ابن حجر وهو الشهير بعلمه وفضله الفائق في تحقيقه وفهمه في مقام الاحتجاج بها حيث قال (وتسن العمامة لقصد التجمل والصلاة للأحاديث الكثيرة فيها من اشتداد ضعف كثير منها تساهل كما هو عادة ابن الجوزي هنا يعني في التضعيف والحاكم في الصحيح ألا ترى الحديث اعتموا تزدادوا حلماً حيث حكم ابن الجوزي بوضعه والحاكم بصحته) ا هـ.. بلفظه من تحفة المحتاج بشرح المنهاج وورد كثير من هذا كما صرح به في المواهب الدينية حيث قال فهذه كما ترى عدة أحاديث في فضل التعمم ولا يضر ضعف أكثرها وإن اشتد في بعضها لأن بعضها يجبر بعضاً ويشذه كما هي القاعدة عند المحدثين إن كثرة الطرق تجبر الحديث ويعبر بهذا أصلاً معتبراً.. ا هـ.. هذا أيضاً في بعض شروح الشمائل. |
إذ إن الأحاديث التي أوردها الكاتب الأول حسنّة لغيرها بل متواترة تواتراً معنوياً كما إذا تواترت الأخبار بأن حاتماً كريم فهذه وإن ضعفت أسانيدها فقد قوى بعضها بعضاً. فحديث اعتموا الخ.. هو أحد الحديثين اللذين ذكرهما الكاتب الأول والثاني من هذا القبيل إذ إنه لم يذكره للاستدلال به على أفضليتها فقط ليس إلا، ودليل ذلك شرحه لصدر الحديث لأن فيه الشاهد وتركه للعجز. فتخلص لدينا أنه على أفضلية العمامة استند بهذا الحديث لمعضداته الكثيرة جداً لا على كبرها وكثرة كوراتها ولا أعلم لماذا الحماس من حضرة الأديب المهدي، الذي لا محل له من الإعراب ولماذا هذا الازدراء المعيب الذي لا يتفق مع آداب المناظرة. |
|