شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
5 ـ المعارك الأدبية
لقد دعا ابن عبد المقصود الأدباء الشباب في عصره إلى الارتباط بالواقع ونبذ الاتجاه الرومانسي، لأن ظروف البلاد تحتم دراسة الواقع والبحث عن أسباب التخلف؛ كما دعاهم أيضاً إلى تجنب الكتابة في موضوعات أكبر من طاقاتهم، وإلى التسامح في النقد، لأن الوطن في حاجة إلى تشجيع الأدباء. وهو يرى أن يكون الانتقاد محصوراً فقط في العادات الاجتماعية السيئة، ويقول: ((ونحن الحجازيين الآن كالمرضى)). وكان ابن عبد المقصود في طليعة روّادنا الذين دعوا إلى إيجاد رابطة أدبية تجمع جهد الأدباء، وإنشاء نوادٍ أدبية ثقافية تعمّ أنحاء البلاد.
لكن المعارك الأدبية كانت على أشدها خلال تلك الحقبة وقد أشرت إليها في دراستي للمادة الأدبية المنشورة في صحيفة ((صوت الحجاز))، إذ لاحظت أن هناك الكثير من المقالات النقدية التي تناولت بعض القصائد والمقالات المنشورة غالباً في الصحيفة نفسها، أو في صحيفة ((المدينة المنورة)) ومجلة ((المنهل)). وقد اتخذ ذلك النقد طابع الحدّة والعنف لأن معظم من يكتبونه كانوا من الشباب الذين يغلب عليهم الغضب والاندفاع، بالإضافة إلى تأثرهم بالمعارك النقدية المحتدمة في ذلك الوقت في بعض البلدان العربية، ولا سيما مصر. لذلك فإننا نجد أن النقد كثيراً ما ينحرف إلى خصومات شخصية بين كاتبين أو أكثر، وكثيراً ما يتداخل أهل الخير أو الصحيفة نفسها لتهدئة المعارك وفض المنازعات.
ومن أطرف المعارك التي تعرّض لها محمد سعيد عبد المقصود من معاصريه هي تلك التي دارت بينه وبين الأديب أحمد السباعي ـ رحمه الله ـ وقد كتب كل منهما باسم مستعار لتفادي فيما يبدو لوم القرّاء أو إثارة فضولهم على الأقل. وكان ((الغربال)) هو الاسم المستعار لابن عبد المقصود وهو مأخوذ كما هو واضح من ((غربال)) ميخائيل نعيمة، أما السباعي فقد اختار اسم ((المنسف)). وقد ثارت المعركة إثر نشر الأول مقالاته عن الأدب في الحجاز فما كان من السباعي إلاّ أن تصدى له بالنقد والتهكّم. ولم يكن ابن عبد المقصود متبرماً من ذلك النقد، بل كان محبذاً له لأنه يعتبره صحوة قلمية تدل على الحياة وعلى الحركة، وهو يستشهد بطاغور، شاعر الهند، الذي يقول: ((لا تصحو أمة من نومها ولا تنهض إلاّ تحت ثورة قلمية، ولا يسعد الشرق إلا بائتلافه..)).
وفي مقالتين نشرهما ابن عبد المقصود بعنوان: ((الغربال ومنتقدوه)) يركّز فيهما على نقد ((المنسف)) أي أحمد السباعي، لكنه يرجع بعد حوالى أربع سنوات، سنة 1355هـ ـ 1936م، ويكتب باسمه الصريح مقالة بعنوان: ((على هامش ملاحظات حرة ـ إلى الصديق السباعي)) وفيها ينتقد صديقه السباعي ويقول عنه إنه ينحو منحىً فكاهياً في أسلوبه ويتطرّق إلى موضوعات غير مهمة، وإن السباعي ـ كما يقول: ((كان قاسياً في مقالته عن الطيران السعودي وفي حديثه عن اليوبيل الفضي لمدرسة الفلاح)).
أما السباعي فإنه ينتقد ابن عبد المقصود ويتهمه بالكبرياء والغرور، وقد تحدَّث عنه في مقالتين سمّاهما: ((معجزة عصرنا الزاهر ـ الغربال))، وأشبعه تهكماً وسخرية. وفي مقالته: ((ملاحظات حرة ـ على هامش ابن عبد المقصود))، التي نشرها في صحيفة ((صوت الحجاز)) سنة 1355هـ ـ 1936م يرد السباعي على نقد ابن عبد المقصود ويقول: ((إن الأسلوب الفكه أسلوب فني لا يحسنه ابن عبد المقصود الذي يرسل مقالاته باردة لا روح فيها. كما يرد على انتقاده له في اختيار الموضوعات واتهامه له بالقسوة.
وفي مقالتي محمد راسم: ((من هو الغربال؟)) يقف الكاتب إلى جانب السباعي ويقول عن ابن عبد المقصود: ((إنه يكتب في كل شيء، ويتهمه بالسرعة أو التسرع في كتاباته وأنه يحشر نفسه في اختصاصات الطبيب والاقتصادي والاجتماعي.. الخ. أي إنه يدَّعي معرفة كل شيء)).
ولكن رغم كل تلك الزوابع النقدية التي أثارها السباعي وآخرون حول ((الغربال)) ـ محمد سعيد عبد المقصود، فإن كتابه (وحي الصحراء) الذي نشره بالتعاون مع عبد الله بلخير سنة 1355هـ، يعتبر الكتاب الثاني في التعريف بالأدب المحلي بعد كتاب محمد سرور الصبان (أدب الحجاز أو صفحة من أدب الناشئة الحجازية شعراً ونثراً) سنة 1344هـ. أما مقدمة ابن عبد المقصود فهي الأولى في محاولة الكتابة عن تاريخ الأدب في منطقة الحجاز. وقد استأثر كتاب (وحي الصحراء) باهتمام لا بأس به، لكن جميع الكتابات التي تناولته كانت بتوقيعات مستعارة، ما عدا مقالة واحدة كتبت بتوقيع فيصل بن عبد العزيز آل مبارك.
وربما كان ((سهران)) أهم من كتب عن (وحي الصحراء) في تلك الفترة، إذ نشر ثلاث مقالات في صحيفة ((صوت الحجاز)) عن الكتاب، وهي مقالات تتميّز بالعمق والشمول والنظرة الموضوعية إلى ما احتواه من نصوص. وقد نوّهت الصحيفة بأهمية ما كتبه ((سهران)) عن الكتاب بقولها في صدر مقالته الأولى: ((حول وحي الصحراء)) ـ العدد 249، 1356هـ ـ 1937م: ((لأديبنا الكبير صاحب التوقيع غيرة كبرى مشهودة على الأدب والتمسك بأسبابه الرفيعة، في وقت أصبح الانتساب إليه معرّة في عقيدة أدبائنا المعروفين بدليل موقفهم منه. وقد أبت عليه غيرته الأدبية أن يدفن (وحي الصحراء) ولما تمض على ميلاده أيام معدودة..)).
ومقال ((سهران)) فيه حث للأدباء والنقّاد على تناول الكتاب بالنقد والتقويم الموضوعي المحايد. وهو يعتب عليهم إهماله مع أن صدوره يعتبر حدثاً ثقافياً مهماً في المملكة ويقول: (( ألا إني أستطيع أن أعلن سروري به وفرحي لظهوره وأن أعدّ الاعتزاز به وبأمثاله واجباً وطنياً لندرة ما يظهر لنا من كتب ومؤلفات)). ويبدأ ((سهران)) في نقده للكتاب بمقدمة الدكتور محمد حسين هيكل، فيقول: ((إن فيها من المجاملة الشيء الكثير حتى ليظن القارئ أن مصر والحجاز في حلبة الإتقان والقوة كفرسي رهان)) ويرد على هيكل في ((زعمه)): ((أن الأدب في الحجاز متأثر بالبيئة وبالبادية، ويقول إنه ليس في نصوص الكتاب، مع الأسف، ما يؤيد ذلك. بل إن الكتَّاب والشعراء هنا متأثرون في الحقيقة بأساتذتهم الأدباء العرب المعاصرين في كل من مصر والشام والمهجر الأمريكي، وإن البيئة المحلية لا تشكّل في الحقيقة أي أهمية تذكر. ويقوم الكاتب بتصنيف الشعراء في (وحي الصحراء) إلى طبقات، مبيناً خصائص واتجاهات كل طبقة، ويقول إنه إنما يفعل ذلك ليتجنب ذكر الأسماء، لأنه لا يريد التشهير بأي واحد منهم. أما هذه الطبقات فهي على النحو التالي:
الطبقة الأولى: جماعة القصور الشامخة، وهم التقليديون الذين يستوحون صورهم وتراكيبهم من الماضي.
الطبقة الثانية: جماعة الأكواخ. وهم الواقعيون الذين يصورون الحياة بحلوها ومرها.
الطبقة الثالثة: جماعة الإبل التي تحوم حول الغدران. وهم الناشئة الذين يملكون الموهبة لكنهم يحتاجون إلى النصح.
الطبقة الرابعة: جماعة الإتقان والإجادة في الشعر والنثر معاً. وهم قلة.
ونتساءل بعد ذلك عن شخصية هذا ((السهران)) فلا نجد شيئاً يدل عليه، ولكننا نستشف من مقالته: ((النقد والناقدون)) التي نشرها في صحيفة ((صوت الحجاز)) ـ العدد 379، سنة 1358هـ ـ 1939م ـ أنه من الأخوة العرب المقيمين في المملكة، أو ((المتسعْودين))، إذ يقول في هذه المقالة ما نصه: ((وبعد، فلا يشق على حضرات الزملاء أننا تناولناهم بما لا يحبون، فقد سلكت نفسي في زمرتهم ووقفت بين يدي المحكمة في صفّهم، فأنا أعدّ نفسي من ناحية الكتابة والبحث حجازيًّا، لأني لم أتصل بالأدباء وشؤونهم إلاّ في هذا القطر)).
وقد تناول من سمّى نفسه ((ابن رشد)) أيضاً كتاب (وحي الصحراء) بالنقد والتحليل، وذلك في مقالته: ((الفكرة التامة والحس الملهم بين الشعر والنثر)) ـ العدد 253 من صحيفة ((صوت الحجاز)) ـ فلاحظ تشابه نصوصه المختارة، شعراً ونثراً، وعزا هذا التشابه إلى ما سمّاه ((العنصرية)) أو ((القومية الأدبية))، ذلك أن جميع من أسهموا فيه من الأدباء ينتمون إلى بيئة واحدة. يقول: ((هناك شبه واضح بين بعض الشعراء في جرسهم الشعري واتجاه خواطرهم وتقارب أخيلتهم؛ وكذلك يتشابه الكتَّاب في مواضع تفكيرهم ولمحات انتقالاتهم من معنى إلى آخر وأسلوب المنطق الذي يتخذونه وسيلة للنفوذ إلى أغراضهم. ولئن كان شبه الشعراء يحتاج إلى دقة وإمعان للتثبت منه، فإن شبه الكتَّاب جليّ واضح يلمسه القارئ في غير عنت ولا مشقة))، وهو يضع مقياساً لجودة النثر والشعر والمتمثل في ((تمام الفكرة في النثر وإلهام الحس في الشعر)).
ونقلت صحيفة ((صوت الحجاز)) ما كتبه ((ح ـ نزيل القاهرة)) في صحيفة ((السياسة الأسبوعية)) المصرية حول كتاب (وحي الصحراء) ـ العدد 263 ـ وهو يشيد بالكتاب ويرى تأثر أدبائه بالبيئة المحلية من جهة، وبالأساليب العربية الحديثة من جهة أخرى. ويناقش رأي طه حسين في ما كتبه عن أدب الجزيرة العربية، كما يورد شيئاً من مقدمة هيكل للكتاب المذكور.
ويرد على ((ح)) من سمَّى نفسه: ((أحدهم)) في مقالة له بعنوان: ((حول كتاب وحي الصحراء ـ نحب أن تسمع ـ عدد 266 ـ مشيداً بنقد ((نزيل القاهرة))، لكنه يقول إن مآخذه على الأدباء الحجازيين تحتاج إلى ردود منهم، ومن ذلك نقده لمقدمة ابن عبد المقصود، وما ذهب إليه من أن الأدب لا يزدهر في عهد الفتن والحروب، وكذلك نقده لمحمد حسن فقي الذي تحدَّث عن رواية رفائيل من غير أن يطلع عليها في الأصل المترجم.
أما فيصل بن عبد العزيز آل مبارك فقد كتب مقالة بعنوان: ((كتاب الله لا يماثله كتاب)). العدد 253 ـ ينتقد فيها كتاب (وحي الصحراء) من الناحية الدينية، مستشهداً بأبيات لأحدهم منها:
آمنت بالوحي في الصحراء أنزله
على الجزيرة كتّابٌ ميامينُ
ويقول الكاتب إن الأبيات فيها تصريح بأن وحي الصحراء مثل وحي السماء، وأن الأولى أن يشبه بوحي مسيلمة ((فوحي مسيلمة ووحي الصحراء أخوان متشابهان، فإن الله ليس كمثله شيء وكتابه لا يماثله كتاب)). لكن هذه الأبيات التي استشهد بها آل مبارك غير موجودة في الطبعة الحالية المصورة التي أصدرتها تهامة سنة 1403هـ ـ 1983م، فلا بد إذن من الرجوع إلى الطبعة الأولى لنتبين الحقيقة.
وبعد..
فما قدمناه لا يعدو الكلمات الموجزة عن علم من أعلام نهضتنا الثقافية ورائد من روّاد يقظتنا الحديثة التي أسسها ورعاها بطل هذه الأمة الملك عبد العزيز آل سعود، طيّب الله ثراه. ولم يمهل الموت ذلك الشاب النشيط المتفتح محمد سعيد عبد المقصود بل شاء الله له النهاية وهو في أوج نشاطه وحيويته، وقد رثاه رفاقه من الأصدقاء والمحبين ومنهم الدكتور حسني الطاهر الذي أشاد بعروبته وجهاده وعمله الذي لا يعرف الكلل. ويقول عنه أحمد السباعي إنه كان شعلة ذكاء وحيوية وإنه كان يخشى عليه من الإرهاق واندفاعه المستمر نحو العمل، وقد تحقق ما كان يخشاه وها هو ابن عبد المقصود يودّع الحياة وهو في قمة شبابه وحيويته.
ويذكر فؤاد شاكر ما قام به الفقيد من أعمال عظيمة في سبيل إنعاش الحياة الثقافية والأدبية وما كان يتحلّى به من حماسة ووطنية وجد ومثابرة.
ويقول عبد الله عريف إن وفاة ابن عبد المقصود كانت خسارة كبيرة وهو يعدّد مآثره ويقول إن حيويته هي سر شخصيته، وإنه موجود في كل مشروع وفي كل مناسبة، ويقول إن عبد المقصود ينبغي أن تكتب حياته في كتاب يضم نوابغ الشباب.
ويقول علي أحمد باكثير من قصيدته التي نشرها في مقدمة كتاب (وحي الصحراء) مشيداً ومتفائلاً:
أهلاً بأنفاس الحجاز
ومرحباً بصدى الحَرَمْ
هبّت على الأقطار مُحيـ
يةً، ودوّى في الأمم
* * *
ذهبا يعيدان الرجا
ء إلى النفوس اليائسه
أن العروبة سوف تُبْـ
ـعثُ في رباها الدارسه
لكن محمد سعيد عبد المقصود لم يمت وقد خلَّف ابناً باراً حقق الكثير مما كان يحلم به ذلك الوالد البطل. رحم الله الوالد، ووفق الابن إلى كل ما فيه الخير وما تحلم به هذه الأمة العظيمة ((البائسة)) أو ((اليائسة)). على حد تعبير باكثير.
والله الموفق..
الأستاذ الدكتور محمود زيني عريف الحفل: شكراً للدكتور منصور الحازمي على هذا الغوص والتنقيب والتحليل عما كتب عن الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود خوجه من مقالات وكتب ونقد، الباحث الآخر الذي أسهم بنصيب في دراسة المحتفى به هو الأستاذ الدكتور محمد بن سعد آل حسين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1208  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 233 من 252
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.