أتيتُ إلى الدُّنيا أٌبادِرُ باكِياً |
فمِنْ بَدْءِ خَلْقي كان بَدْءُ بكائيا |
كأَنِّي أَرَى في صفحةِ الغَيْبِ شِقْوتي |
مسطَّرةً.. والحزنُ يرسمُ ذاتِيا |
أَبي.. كان فذّاً في الرجالِ نهارُهُ |
كفاحٌ ويُحْيِي بالقُنوتِ الليَالِيا |
فقيراً ولكن بالشموخِ موشَّحٌ |
فلا ينحني مهما يعانِ المآسِيا |
ويصبرُ إن جارَ الزمانُ بهمَّةٍ |
تغالبُ رغْمَ الفقرِ.. دَهْراً مُعَادِيا |
يجوعُ، فإن جاءَ الطعامُ رأَيْتَه |
تناءَى.. وأَدْنَى للصغارِ الأَوانيا |
ويحرم في ليلِ الشدائد نَفسَهُ |
ويؤثِرنا حتى وإنْ باتَ طاوِيا |
كريمٌ فلا يأسى على ما يفوتُهُ |
وإن نالَ فضلاً كان برّاً مواسيا |
وأَقْبَلَ يومٌ كالِحُ الظِلِّ مُثْقَلٌ |
رأَيتُ أَبي يُدْنى إلى القَبْرِ ساجِيا |
عرفت جلالَ الموتِ وهو حَقيقةٌ |
تغافلتُ عنها حِقْبَةً من زمانِيَا |
وأَيقنتُ أنَّا راحلونَ وأَنَّني |
وإن طالَ بي عُمْري سأُصبح فانِيا |
وكنتُ طريَّ العُودِ ما زلتُ يافِعاً |
غَرِيراً قليلَ الحوْلِ أَخْشَى العَوادِيَا |
وحيداً ولا مالٌ وحولي صِبْيَةٌ |
يَتامَى تَضَاغَوْا جائِعين حِيَاليَا |
فأَيْقَظَني من غفلةِ العمْرِ بؤسُهمْ |
وأَشْعَلَ في ذاتِي وئيدَ حماسِيَا |
فَشَمَّرْتُ تشميرَ الكريمِ إذا غدا |
إلى الحَرْبِ لا يخشى من الموتِ عادِيا |
وأقبلتُ أَسْعَى في الحياةِ وقُدْوتي |
أبٌ صارعَ الأيامَ كالليثِ ضارِيَا |
* * * |
فلمَّا استوى عودِي.. تلفتُّ ذاهِلاً |
أُقلِّبُ فِكْري.. والدروب أَمامِيا |
توهَّمتُ أنَّ المجدَ.. إحرازُ ثروةٍ |
أصونُ بها وجهاً رأَى الفَقْرَ.. عارِيا |
فَرُحْتُ بعزْمٍ لا يكلُّ وهِمَّةٍ |
أحاولُ كَسْبَ المالِ .. ليْلِي .. نهاريَا |
سنينٌ وأعوامٌ من العمرِ أُهْدِرَتْ |
تغربتُ عن أَهْلِي أَجُوبُ الفَيِافِيا |
وسُحْتُ بأَرْضِ الله.. والمالُ غايتي |
أعاني.. فما أَزْدادُ إلاَّ تمادِيا |
وبعد سنين الصبرِ أَصبحتُ موسِراً |
وأَصبحَ قلبي نازِفَ الجرحِ دامِيَا |
فرحْتُ بعيٍن أَحْكَمَتْها تَجَاربي |
أردِّدُ طَرْفِي في الخلائقِ هازِيا |
أَفِي المالِ - بِئْسَ المالُ - أَبليتُ زهرتي؟ |
وحوْلي جمالُ الكونِ يَنْبِضُ زاهِيا |
وأَحسستُ أنِّي والحياةُ تلفُّ بي |
أُفَتِّشُ عن أَشْياءَ لمْ أَعِ ما هِيَا |
فساءلتُ نفْسي والضَّيَاعُ يُحيطني |
وليلٌ من الحرمانِ يُفرِغُ ذاتِيَا |
لعلِّي ولا أَدري أُفتِّشُ عن هوىً |
يعيدُ لإحساسي صَهِيلَ شَبَابِيَا |
ومرَّت سنين العمرِ ثَكْلَى رتيبةً |
وقلبي يُعاني بين جنبي صادِيَا |
* * * |
وجئْتُ.. كما تأتِي النسائمُ في الضُّحِى |
يضمُّ رداءُ الحسنِ عودَكِ حانِيَا |
تَسَلَّلَتِ نحوَ القلبِ في ميْعَةِ الصِّبا |
فأَيْقَظتِ عمْرِي بعدَ ما كان غافِيَا |
وعادَ وجيبُ القلبِ يخفِقُ صاخِباً |
وعادَ شبابي راكِضَ الخطْوِ طاغِيا |
وقُلتُ لنفسي والضبابُ يلفُّني |
أَفِيقي.. فَصَفْو الحُبِّ أَصْبَحَ دانِيِا |
وأَغرقتُ عُمْري في الهوَى وحنانِهِ |
وفي نارِهِ أَحْرقتُ روحي وذاتِيا |
وكرَّت لياليِ العمْرِ تمْضِي سريعةً |
وقلبي مع الأَشْواقِ يرقُصُ لاهِيَا |
تنقَّلتُ بين الروْضِ أَلثُمُ زهْرَهُ |
ورحْتُ أَعبُّ الشهدَ عذْباً وصافِيَا |
فلم أَدْرِ.. إلاَّ والصِّبا كادَ يَنْقَضِي |
وريعانُ عمْري بالشجا باتَ ذاوِيَا |
فرحْتُ أعزِّي النفْسَ بالصبرِ حائراً |
وقد ملَّ قلبي وانطوى مُتداعيا |
فأدْركتُ أنَ الحبَّ يخْبو أُوَارُهُ |
وطُول التَلهِّي.. يَسْتَبيح الأَمانِيا |
* * * |
وعدتُ أجيلُ الطرْفَ حولِي يائِساً |
أُكَفْكِفُ دمعي دامِيَ الروحِ شاجِيَا |
فعشتُ بإِحساسي أُحاوِلُ أَنْ أَرى |
صديقاً يواسيني ويرحمُ حالِيَا |
فخالطتُ أقواماً وجرَّبتُ معْشراً |
فلم أَلْقَ بيَن الناسِ خِلاًّ مواسِيا |
تكاثَرَ خِلاَّني وحظِّي وافِرٌ |
فلمّا كبا حَظِّي تلاشَوْا تَلاَشِيَا |
وفكَّرتُ في أَمْرِي ويأسي وحيرَتي |
فلم أَرَ غيرَ اللهِ يأسو جراحِيَا |
فعدتُ كما عادَ المحاربُ مُثْخَناً |
إلى بابِهِ أَشْكُو إليه شقائيا |
فما ثمَّ غيرُ الله يُرجى لعائذٍ |
يقومُ بجُنْحِ اللَّيلِ يَقْنَتُ داعِيا |
فعلَّقْتُ آمالي بمن في رحابِهِ |
يلاقي الحَيَارَى إن دَجَا الليلُ هادِيا |
وأَلْفَيتَني أَرْنو إلى اللهِ نادماً |
بقلب مُنيبٍ عادَ يَنْشُجُ باكيا |
هناكَ أَضاءَتْ في فؤادي سكينةٌ |
وطهَّرني الإِيمانُ منْ هَوْلِ ما بِيَا |