شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(76) (1)
كنت هذا اليوم مع صورة من صور المستقبل الجديد المتطور والمنظور لبلادنا.. أتخيلها.. نتيجة لمقدمات.. في حدود وآفاق ما كنت معه.. كما لا بد وأن تكون.. فقد استمعت من إذاعتنا إلى برنامج ـ تحية وسلام ـ برنامج حي كريم توصل به وزارة الإعلام مشكورة في جهد.. وتضحية.. ومعاناة بين الطلاب من أبنائنا في الخارج.. وبين ذويهم في الداخل.. مهيئة لأولئك ولهؤلاء فرصة اللقاء الصوتي ـ يتبادلون فيه التمنيات والأشواق.. والأخبار..
وإذا كنا قديماً نقول في رسائلنا لبعضنا.. لا تقطعوا عنا رسائلكم فإن.. الكتاب نصف المواجهة فماذا عسانا نقول اليوم عن هذه المواجهة المسموعة؟
ولقد هزتني أصوات أبنائنا الطلبة.. حيث هم في الدنيا الجديدة.. الطويلة العريضة بأوروبا.. وبأمريكا.. وبسواهما من القارات.. يخططون بعون كبير من الحكومة بواسطة وزارة المعارف أو على حساب أولياء أمورهم مستقبل بلادهم.. بتخطيطهم لأنفسهم في كل علم وفن من علوم وفنون المعرفة والتجربة والتكوين..
وقفزت بي الأفكار والذكريات بالمناسبة قفزة كبرى شملت أول ما شملت المقارنة بين ما كنا عليه وبالأخص النساء من الأمهات وسواهن من الخوف والفزع الشديد من فراق أبنائنا.. وبين ما آل إليه حالنا من الحرص الشديد على الترحيب بغربتهم في سبيل الدرس والتحصيل وتربية النفوس.. فلقد كنا ننادي بالويل وبالثبور حين تحكم الظروف.. أو طبيعة العمل على الفرد منا بمغادرة بلدته بعيداً عن أهله رغم أنه في السن التي تسمع له بالاعتماد على نفسه.. ولنا بالاطمئنان عليه ما دام كذلك.. وكيف كنا نسعى جهدنا بشتى الوسائل للاحتفاظ بالولد.. بله البنت معنا وبين ظهرانينا حتى لو تم ذلك كما نعرف على حساب مصلحته ومستقبله..
وربما لا زال معظمنا.. في هذا المجال.. يضحي في سبيل بقائه بين ذويه نزولاً على رغبتهم ورغبته بما هو مأمور له من مستقبل وشأو مرموقين.. أما البحث في أمر الغربة الطويلة في سبيل التعليم الخارجي فلقد كان الجدل به من المستحيلات.. وتعتبر الأم.. ويشاركها الوالد أحياناً.. أن سفر ابنها لبلاد بعيدة عنها وعن بلدها المصيبة الكبرى التي لا تحتملها خيالاً.. لا واقعاً محسوساً في حياتها وحياة البيت كله من دونه..
وأذكر بانتهاء دراستي تقريباً بمدرسة الفلاح بجدة وكان الوقت زمن عطلة مدرسية كانت تقع مرة في العام ولشهر واحد هو شهر ذي الحجة.. أذكر أن قريباً لنا ممن يقطنون السودان عرض على والدي أخذي معه بعد أدائه مناسك الحج لإكمال الدراسة هناك.. وإن من أبرز المميزات التي ستوفرها لي فرصة التعليم العالي هناك. رجوعي.. بلسان ثانٍ.. مع احتفاظي بلساني الأول.. فسأتقن اللغة الإنجليزية.. وقليل.. أو نادر من ينطقون بها آنذاك. وإن في ذلك ضماناً لبناء مستقبلي على أسس قوية ثابتة..
وفرحت بالعرض السخي من هذا القريب المبارك الأصل.. والنبيل العرق.. وتخيلت نفسي أرطن بين من لم يفهموا ما أقول.. وإنني سأقرأ مباشرة.. لا بالواسطة.. شعر شكسبير الإنكليزي.. أو الشيخ زبير العربي الأصل كما يحلو لبعضهم إدراجه في شجرة أبناء العرب.. وإنني.. وإنني.. مما تستدعي الحالة وتوابعها توفره لي ملوناً لحيتي.. مكوّناً لها التكوين المتخيل الكبير..
وزاد من فرحتي.. ومن تضخم الخيالات.. والآمال المعقودة على دراستي في السودان الإنجليزي ـ حينذاك ـ موافقة أبي مبدئياً وفي حذر على هذا الاقتراح المشكور، ولكن العقبة جاءت من الأم التي لم تسمح نفسُها.. أو لم تصفط بتعبيرها ـ بأن يسافر ولدها بعيداً عنها يفصل بينها وبينه بحر طويل عريض سيقطعه به.. بابور.. من تلك البوابير التي ينادي عليها المنادي في سوق العلوي كل أسبوع.. أو كل شهر..
وبين ضمة حانية منها.. وبلبلة خدية من دمعها.. ثم من مدمعي السائل بالعدوى.. تبخر أضخم مشروع في حياتي بسبب العادة السائدة ببلادنا.. أيام زمان من عدم السماح للأهل بتغريب أولادهم..
وهكذا عوّضني اليوم ما فقدته بالأمس أصوات أبنائنا يخاطبون ذويهم من عواصم العالم الكبرى مؤكدين لهم أنهم على الطريق الطويل.. وفي الطريق إلينا.. أفواجاً تحمل لنا الأمل الباسم.. والوجه المشرق لصورة المستقبل الضخم الضاحك.. وغبطة أبناء هذا الجيل المحظوظ!..
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :647  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 115 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.