(34) |
العودة..! |
وسافرت في النهاية إلى بلد بعيد عن كرا.. وعشت حريصاً على ألا أصعد جبلاً ممهداً.. أو غير ممهد هناك.. حتى لا أشرك في قلبي حباً لجبل غريب.. بعد حبي لهذا الجبل القريب منه.. بل والساكن فيه.. على أنني رغم البعد المكاني والزمني بقيت البعيد القريب.. فأنا على صلة دائمة.. وتحسس ـ واستعلام.. وسؤال لا ينقطع عن حاله.. وعما فعلته الأيدي.. والأدوات الحديثة والآلات الضخمة.. فيه. |
وكان أن تجمّعت لي من كل ذلك.. مضغوطة في سطور هذه السطور: |
1 ـ بلغت كميات الديناميت المستعملة لنسف صخوره ـ 1200 ـ ألفاً ومائتي طن. |
2 ـ وكميات الصخور المنسوفة به ـ 4000000 ـ أربعة ملايين متر مكعبا. |
3 ـ وكميات الخرسانة المسلّحة للجسور وللحواجز وغيرهما ـ 80،000 ـ ثمانون ألف متر مكعب. |
4 ـ والخرسانة البيضاء للحوائط الساندة وفتحات تصريف المياه ـ 340,000 ـ ثلاثمائه وأربعون ألف متر مكعب. |
5 ـ كميات الردميات لعمل الجسور وما تحت طبقات الأساس 1,700000 ـ مليون وسبعمائة ألف متر مكعب. |
6 ـ والخرسانة الإسفلتية 40,000 أربعون ألف متر مكعب. |
7 ـ وبلغت المساحة المغطاة بها ـ 650,000 ستمائة وخمسين ألف متر مسطح. |
8 ـ مستهلكة من الإسفلت نفسه ـ 3,600 ثلاثة آلاف وستمائة طن. |
وانتظرت اليوم الذي أطالعه فيه، ويطالعني هو فيه.. بوجه جديد.. وبقوام رشيق.. وبابتسامات متتالية عذبة.. بعد هذا العذاب.. يهنأ بها.. ويطلقها من ملف في دربه الجديد.. أي ملف جديد. |
وتساقطت ـ كأوراق الخريف ـ أوراق النتيجة اليومية.. أمامي.. فإذا أنا وفي نفس التاريخ الذي كنت فيه عامي المنصرم قد عدت إليه.. عدت مصمماً أن أراه حديثاً من نفس الدرب الذي رأيته فيه قديماً وتعرّفت به بواسطة حمار الجدابي أحد أبناء وادي الأعمق القابع هانئاً فوق قمته الخضراء. |
وفي صباح مشرق كنفسي به.. وبطريق مسفلت لا نتوء ولا عقبة فيه ركبت.. بدل حمار الجدابي.. سيارة يقودها صاحبها الشاب.. سيارة أنيقة.. في ضخامة.. سريعة.. في ثقة.. مريحة كل الراحة.. لا تجعلك بعد أن تبلغك مأمنك ومأربك تشعر إطلاقاً بما كنت تشعر به من تسلخ ساق أو تصلّب ركبة.. أو تقوّس ظهر.. أيام حمير الجدابي.. وتلك نعمة من نعميات الحضارة ننسى بها سابقها حين نألفها ـ لننسى ما كنا فيه من تعب.. وعنت.. وإرهاق.. بل ربما أنستنا إلفتنا لها وسهولة استعمالها وشيوعه.. وصيرورتها وسيلة طبيعية من وسائل المواصلات الحديثة أن نذكر.. فنشكر.. |
ولقد يغتفر للشاب هذا الجحود والكفران بالنعمة الحضارية تشمل مع السيارة الطائرة.. والمذياع.. والتلفزيون وسواها.. الذي ينشأ وبين يديه.. وأمام عينيه كل تلك النعمات الحضارية الحديثة.. الشائعة كالماء والهواء.. لا يدرك مدى قيمتها.. وما تحويه من متاع ممتع بالنسبة لمتجرع الحرمان الطويل السابق اكتوى بلظاه طويلاً.. وعانى من امتداده ما عانى.. من معاناة. |
ويلوح لي بالمقارنة أن عصبة الكهول منا هم أجدر من هذا الشاب وأمثاله بالشكران.. وعرفان الجميل لمزخرفي الحياة الدنيا بطيبات من نعميات الحضارة وفضائلها يزجونهما.. ذكريات في إطار.. وفصولاً من روايات وأحاديث.. أو مقارنة تعقد بين قديم وجديد.. أو متابعة لآمال تتحقق.. وتلك ولا شك ضريبة الخضرمة للكهول في كل زمان ومكان.. |
على أنني قبل أن أواصل.. أو أن أنسى.. أحب أن أذكر مناسبة طريفة أذهلتني رغم غرابتها.. وإن لم تغب عني معرفة بواعث طبيعتها فقد أعرب قريبي سائق السيارة الشاب بعد أن حدثته عن ماضي الجبل في بلادنا.. وعن حاضر السيارة فيه.. وبهذا الطريق منه نسلكه فرحين مرحين.. مصوراً من كل ذلك بلغة الشعر.. رحلتي الأولى والثانية إليه فوق تلك الحمر القميئة البائدة يملكهما الجدابيان محمد وأحمد.. لقد أعرب قريبي الشاب في حماسة وفي شوق عن أمنيته في أن يقوم برحلة كتينكما الرحلتين للجبل وفيه.. سالكاً إليه طريق الجمال.. ان بقي.. على حمار ـ ومع حمار كاللذين إليهما أشرت ـ ونوهت!! |
فلم يسعني عند هذا الحد من إعرابه عن أمنيته إلا أن قلت له إن أمنيتك هذه تتفق تماماً وأمنية أي أمريكي مودرن نشأ تحوطه وسائل الراحة.. والمتعة.. والترفيه.. ولكنه ينزع بدافع من رغبة في تكوين حياته إلى النزعة الإسرائيلية سئمت طعام المن والسلوى وجبة مكرورة.. وقرمت أشد القرم إلى فومها.. وعدسها.. وبصلها.. كما أن أمنيتك هذه كذلك تشبه النادرة التي أرويها لك.. والتي رغم قذارة رائحتها تصور الموضوع ـ عابثاً فكها في المضمون وفي المغزى سواء.. بسواء وهي تقول: |
كانت لرجل فاجر صلة بامرأة مثله.. وبينما كان لديها يوماً.. اقتضت المفاجأة اضطراراً أن تحبسه بأقرب مخبأ.. وكان المخبأ دولاباً أحتوى من أنواع وأصناف الروائح والبارفانات على أجودها وأرقاها. |
وبينما جلست هي مطمئنة متحدثة مع القادمين الطارئين كان الرجل رفيقها سجين الدولاب غريقاً بين أقوى الروائح العطرة نفاذاً وأرقها شذى.. يميل يميناً فيشم الفوجير والسنتاليا.. ويميل شمالاً فتعبق بأنفه ليالي باريس وآخر بارفان حديث.. ولم يزل كذلك حتى سئم نعمة شم العطور يتمناها لنفسه سواه وضاق بها.. حتى لقد تاق إلى أضدادها.. فما كان منه إلا أن أهوى بقبضته على باب الدولاب.. فانفتح مكسوراً ليخرج صارخاً منه مستنجداً بمن أمامه.. |
الحقوني.. الحقوني.. يا ناس!! |
شوية خ.. شوية خ..!! |
ومع أن الشاب قد ضحك طويلاً.. إلاّ أنه بقى على إصراره، لم يتنازل عن أمنيته الغالية في أن يصعد جبل كرا يوماً ما عن غير طريقه المسفلت.. ماشياً على قدميه في صحبته حمَّار كالجدابي وبجواره حمار قمئ كلاهما ابن قح لهذا الجبل الذي صار سهلاً.. رغم أنفه.. وضد مشيئته وهواه!! |
|