شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(33)
ما أشبه الليلة بالبارحة..
ولقد نسيت.. وكثيراً ما أنسى.. أن أشير إلى أن وصولي إلى الطائف عام 1384 كان بطريق الجو.. ورغم البعد الزمني بين أول رحلة بالحمير للجبل الذي صار سهلاً.. ورحلتي هذه بالطائرة.. في عصرنا العالمي الحاضر.. ورغم إيماني بفعل الزمن وحده.. لا تتحكم كثيراً في تحويل مجراه.. لسبب أو لأسباب ما.. القوى البشرية المتطوّرة.. فإنني لم أعقد أية مقارنة بيني وبين نفسي بين ما كنا فيه.. وما صرنا إليه.. لماذا؟
لأننا.. مثلاً بقينا سنوات طويلة جداً نقطع الطريق بين جدة ومكة في يوم واحد على الجمال.. وفي ليلة بطولها على البهائم.. فألفنا الصبر والنصب علامتين معتادتين من عوامل الزمن المطلق.. ثم أصبحنا نقطعه في ساعات على السيارات في طريق غير مسفلته.. وإن كان التعبيد والسيارة دليلين ضعيفين ـ حتى ذلك التاريخ على إمكان تحكم القوة البشرية في القفز بأرقام الأعوام البطيئة كما تلاها.. جزء من الزمن المهدور.. بل لقد كنا نعاني بالسير بالسيارات والطريق كما كان عليه.. أضعاف ما كنا نعانيه على قطعه بين جدة ومكة على ذوات الأربع!
ومن ذكرياتي في هذا الباب للترفيه.. وللحمد على ما نحن عليه الآن.. خصوصاً بالمواصلات أنني كنت أعمل بمكة بينما كانت عائلتي بجدة.. شأني في ذلك شأن الصديق حمزة شحاته.. فكان كلانا يضطر إلى النزول منها إلى جدة مساء الأربعاء.. احتياطياً.. لضمان قضاء الجمعة بين ذوينا.. وكثيراً ما اضطررنا للسير على أقدامنا مع طابور الركاب بضعة كيلومترات.. لبنشرة السيارة.. أو لنفاذ وقودها.. أو لعطل فيها أو لسبب من الأسباب التي كانت تغيب عن أنظار دهاقنة المسؤولين عن الشركة العربية للسيارات التي كانت تمثل ـ كشفريا ـ يعني دملاً كبيراً لا رأس فيه ولا فتحة! ـ في رقاب البلاد والعباد.. بل ربما قضينا في الطريق ليلة بطولها وجزءاً من نهار.. وذلك فضلاً عما كان الراكب منا يعانيه في تكدسه مع سواه بين طرود.. وطرود.. متربعاً.. أو متحوفزاً.. أو محشوراً بين زملائه.. في انتظار قيامها للرحلة دون جدوى.. حتى يصل البشير أخيراً بأن آخر طرد منتظر قد وصل.. بسلامة الله من مكتب.. أو دار فلان!
ولسيارة البريد.. وهي تابعة للشركة المذكورة أعلاه بالأجرة أو بالتعاقد مع المالية.. في تاريخ ما أهمله التاريخ لدينا.. نوادر وحكايات لو سردت بأمانة على شخص من أبناء الجيل الحاضر لظن الحكاية متصلة لا بطريق جدة ـ مكة بل بجزيرة واق الواق.. أو بدغل مجهول من أدغال أفريقيا المهملة. وأذكر أن الأديب المرحوم محمد سعيد عبد المقصود خوجه قد سجل نتفاً من ذلك التاريخ المزعج على صفحات أم القرى الرسمية تحت توقيع.. الغربال.. كما أننا ساهمنا بقسط متواضع أذكر منه على لسان سيارة البريد نفسها تمدّه لأمها في الرضاع.. الشركة العربية للسيارات ما يأتي:
"أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي"
بلعت مطبات الطريق جميعها
وغرزت فيها تاتي. تاتي . تاتي
وبنشرت في كل المحطات دائماً
وقد طلعت من جلدها.. كفراتي
ولكن جزى الله السرسيون رقعة
أداري بها ما داب من عجلاتي
ولا حط في الجالون خيراً.. لأنه
يطير من بنزينه.. بركاتي..
* * *
إلى أن نقول عن بعض مواضع معارك التغريز الشهيرة في ذلك العصر وهو زقاق حداء..
فإن تسألوا عني "الزقاق" يجبكمو
برمل غويط لين العضلات
فكم ليلة قد بت فيه.. بطولها
وفارقته منها.. لوعد آتي
وما فكنى إلاّ بكل تكلف
وقوة أيد تحسن الدفعات
فلا تشتموا السواق بالله وارحموا
ضعيفا فقيراً.. دائم السفرات
وحتى نتناول.. في زغزغة لا تثير أو تجرح.. المسؤولين بالشركة.. فنقول:
فدونكموا هذا الدركسون.. أو خذوا
من اللي كروكم.. كامل الريالات
فهم فلتوني من قراشي.. وحيدة
أجرب في طول الطريق.. ثباتي
وما فتشوا من قبل ذلك عدتي
ولا وضعوا لي باقي الأدوات
ولا شتموني أي يوم لما جرى
ولا سألوا المسؤول عن حركاتي
تعالي وروحي كل ذلك شغلهم
أديني أجيهم ـ أو أروح ـ يوماتي
* * *
ولقد عشنا فعلاً نروح ونجيء كل أسبوع.. مستبسلين في خوض معارك الطريق بين جدة ومكة.. ثم بينها وبين الطائف في زمن الصيف.. وبينها وبين المدينة المنورة حيث المغامرة الكبرى لا تقاس إليها النوادر والمفارقات ـ والمصاعب التي كان يلقاها آباؤنا وأجدادنا الرواد الأوائل فيما كانوا يسمونها ـ الركوب! جمع ركب.. وهم جماعة من الناس يركبون ظهور الحمير التي يربونها خصيصاً لزيارة المسجد النبوي ومعهم زادهم.. ونبابيتهم.. وشواحطهم وأخراجهم الملأى بالزاد.. يعودون بها موقرة بتمور المدينة.. ويتقدمون "المزهد" وهو مغنى الركب ـ أو "حاديه" بلغة الأجداد القدامى.. بعد أن يكون قد أخذ يستنفر الناس للخروج مع الركب أياماً وليالي في البلدة كما يفعل القاصدون لمعركة ما. وللركب ـ ومزهده ـ وقوانيه مجال طويل ليس هنا محله كله بطبيعة الحال وإني لأحس استرواحاً في سرد ما سلف وما قد يعتبره البعض فضولاً في السرد ـ أو نطة بعيدة في الاستطراد بين ما كنت بسبيله عن وصولي من جدة إلى الطائف عام 1384 بطائرة تخترق السحاب.. وما ذكرته عن المواصلات تتملل بين أمواج الرمال.
ولكني أنذركم بأن ما قلت.. هو الطابق.. أما "الكسرة".. فهي خاصة بالطائرة نفسها.. وقبل الخوض لا بدّ لنا من تعريف كلمتي "الطابق ـ والكسرة" وهما بإيجاز من اصطلاحاتنا البلدية في حفلات العرس البلدي القديم.. فقد كان لزاماً فيها أن يزف العروس مرتدياً الجبة والعمامة الألفي.. وذلك قبل دخوله ـ للنصة ـ بالطيران تنقر على رأسه من المغنية وزميلاتها. وكانت تلك العملية تسمّى على أيامنا ـ التزحيف ومن مستلزمات هذا التزحيف أن يكون له "طابق" أي دق مقرر كفاتحة.. ثم كسرة.. أي نقر مخصوص.. كخاتمة.. يعني هناك.. مشق.. ومحط.. بلغة.. المجسات.. وطابقي الذي سلف إنما كان عن حالة الطرق البرية والسيارة، أما "الكسرة" فهي عن حالة الطائرات التي ركبتها يوم أن انتقلت بواسطتها من جدة للطائف.. دون مشاهدتي للجبل الذي صار سهلاً.. فقد أراد الله.. ولا راد لقدره.. أن نصعد لنحشر بها في أشد أيام الحر نزا متواصلاً.. وعرقاً منعدم النظير.. ثم تبيّن أن أعضاءها لأمر ما قد تصلّبت وكدنا داخلها نفطس.. كما نقول من الومد حتى أذن لنا بالخروج منها لإجراء اللازم لها.. مما جعل ذاكرتي تلقائياً تقفز لأداء واجب المقارنة بين سيارة البريد في الخمسينات.. وبين طائرة الخطوط في الثمانيات.. ومما أكّد لي الحقيقة الرائعة في الحملة الشائعة.. إنما يعيد التاريخ نفسه.. وتحاشياً للإطالة.. وتمهيداً لإيراد الكسرة شعرية عن الطيارة مقابل إيرادنا ـ الطابق ـ شعرياً.. كذلك.. عن السيارة.. يستحسن إيراد بعض ما قلناه عنها وكانت كونفيرا.. في الآتي:
ولقد ركبت على السلالم.. خائفا
أتلو على "الكونفير" سورة مريم
فرصدتها بمكانها.. فتصلّبت
منها المراوح.. لم تدر.. أو تبرم
وجلست والركاب بين جنوبها
فكأنني.. وكأنهم.. في قمقم
* * *
حتى استعانوا.. في الأخير.. ببطبط
شهم.. كشحطان اللحى.. متقدم
إن البطابط في مطارات الورى
فن الأعارب.. لا فنون الأعجمي
ما ضرهم.. يا خال.. لو عملوا لها
تيستا.. يقوم بها مقام المرهم؟!
* * *
فلا أجد.. للاستنفار وللاستخفاف بعد بحث مضن وتفتيش دقيق إلاّ هذه الجملة أتمتم بها على مرأى من الجبل.. ومسمع منه.. ألا ما أشبه الليلة بالبارحة!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :743  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 37 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.