شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(31)
هل أنت حي..؟!
واكتفي.. رحمة بالقارئ إن وجد.. وتألفاً له.. وجلباً لسواه حين يوجد.. ببعض أبيات من كل مقطع رئيسي من قصيدة جدة التي سبق ذكر قصتها.. فهي ـ القصيدة ـ في جملة مقاطعها طويلة نوعاً ما.. مسترسلة الذوائب.. مرخية الأطراف.. وتبتدئ هكذا:
لك يا جدة الحبيبة في
النفس مكان محبب مألوف
طار فيه صدى الجديدين..
بالأمس.. وما زالت الحياة تطوف
أنت جزء من موطن ملء قلبي
بعضه المستطاب والمألوف
أنت في ومضة الخيال بعيني
الآن خود جم الحنان المطيف
قمت للقاصدين.. بسَّامة الثغر
لعوباً.. تلقاك منهم ألوف
فكأن السهل الفسيح فناء
والقرى فيه والضواحي ضيوف
وكأن الجبل دونك في الأفق
مكان الإشراق سور مطيف
وكأن التلال حولك بالشط
حراس مدى الزمان وقوف
وكأن الخضم صب على الباب
طريح.. وأنت عنه عيوف
يترامى هوى ـ فتقصينه عنك..
فيرتد.. والمحب ضعيف..
ها أنا الآن فوق تلّي.. ساجي
الطرف يسمو بي الخيال المشوف
والدراري مطلة ترهف السمع..
عليها من الحياء كسوف
والعيون الحيرى توصوص في الشط
فينأى بها الفؤاد اللهيف!
هكذا أنت فتنة من كوى الفكر..
يراك المدله المشغوف
ولدى عالم الحقيقة شيء
دون هذا ـ لولا هواك العنيف
أنت ذاك الميناء.. والبلد
القاحل إلاّ من الهوى.. يستضيف
فإذا شئت أن يصورك الحسن
فما بعدما يرى.. موصوف!
وإذا شئت أن أكنى.. ولا مهرب
من ذاك يبتغيه الأنوف
فاعلمي إنما الحبيب حبيب
كيفما كان.. والألوف ألوف
والمحبون في البرية أغراض
رماة سهامها التعنيف
والملام البغيض مبعثه الجهل..
وبغض الجهول ليس يخيف
والمراءون أدعياء وطبع الحر
طبع يشينه التزييف!
فإذا قلت.. مرة.. فلك الويل
.. فلا غرو ـ فالحياة صنوف
إنما سرب الملال لقلبي
أمل ذابل ـ وعيش سخيف!
* * *
وهكذا كان للسحابة الداكنة.. بنت الجبل.. حملتنا من الهدا إلى جدة.. مدينة.. وضواحي ومشارف.. فضل الذكرى عشناها دقائق حية في وقت لا نصيب لنا من الحياة فيه إلا العيش.. موجزاً في يوميات متداولة مكرورة فيما يباشره.. العائش.. لا الحي.. والبون شاسع بين المعيشة والحياة كما لا أحتاج أن أقول.. بأسلوب من قال.. هل أنت حي؟!
وهكذا أيضاً بعد أن قضينا وطراً ساقتنا إليه حوافز مخبوءة يدفعها الحنين القديم عدنا إلى حيث كنا بمجلسنا فوق قمة الجبل.. انتقلنا فيه من موقعه الأرضي فوق الركيب بساطاً سندسياً أخضر.. إلى داخل الدار.. حيث الدفء.. والإشراق من نافذته على مكان الطباخ..
وهكذا ـ لثالث مرة ـ استفقت من حلمي الطويل الرائع على الحقيقة المادية.. تلمع في اللهب ينبعث من الحطب تتصل وتتابع في جملة قصيرة لها مدلولها تحت قدر السليق.. تشخص الأبصار بين الفينة والفينة إليه.. ثم لا تطيق النفوس خبراً فإذا الناس علامات استفهام لهفة وقلقاً.. هل رمى الرز فلان؟.. ورمى الرز في عرف واصطلاح آكلي العربي إيذان رسمي.. وإعلام لحملة الموائد بمباشرة واجبهم.. فرداً للصفرة كما نقول.. وصفاً للأطباق الفارغة.. وصفها بحساب يضع في اعتباره الأول عدد التباسي.. وجملة الطاعمين.. مع مراعاة دقيقة لمكان التبسي الممتاز لتتصدره.. كعلامة بارزة رأس الخروف بما فيها أبو الكلام.. لسانه الطويل الأخرس.. أو القصير لا يفتر عن الحديث.. يولد الحديث.. على طريقتنا.. فيما نحن فيه..
وأخيراً.. جاء الفرج.. في قولة موجزة موجهة إلى المضيف صاحب الدار.. تفضّلوا.. فتفضلنا.. دون ترتيب في الجلوس.. لا في المراكز.. ولا في الأحجام.. وقد تحاشيت جهدي أن يأتي مكاني بجانب من لم يكن همهم من المهندسين يومها إلاّ الحديث عن عمليات الجبل الحبيب.. وينتهي العشاء.. سليقاً ممتازاً.. تناولناه بمرابيع الصديق محمد عمر توفيق وكنا قد أنهينا قبله الشوط السابع من لعبة ـ الشطرنج ـ حيث كتب لنا الفوز في معظم الأشواط بفضل استقلالنا بالرأي.. وانفرادنا بالخطة السرية عكس خصمنا الصديق الذي فتح لأضيافه مجاملة باب الشورى على مصراعيه فكانت الآراء تترى لديه بتحريك الرخ.. أو نقل الفرس.. أو النط بالبيدق بيتين دفعة واحدة.. أو بسواء ذلك.. فتكون هذه الخطط المكشوفة الشائعة باعث بلبلة وضعف له.. ومصدر قوة لنا في الترتيب الحاسم.. تتلوه بعد حركات.. الجملة التقليدية تزف لنا النصر.. كش شاه.
والواقع أن غرقي في الشطرنج إنما كان تحاشياً وبعداً عن الاندماج في عملية سماع ما حوته التقارير الخاصة بما كان يفعل بالجبل حينذاك وما كان يتناقله بالرواية ـ وبالأوراق بين المعلم ـ وهو الشيخ محمد عوض بن لادن ـ وبين وزير المواصلات الصديق المضيف.. وذلك خشية أن تضعف مقاومتي أخيراً، فأوافق على ما اقترحه الصديق بقيامي بزيارة خاطفة للجبل لأخذ فكرة عن الطريق فيه وقد تمّ في معظم أجزائه.. بل وبنزولي منه.. بإذن خاص.. وأشهد أن إصراري على عدم رؤية حبيبي تحت الماكياج إنما كان قوياً لم تهن العزيمة فيه.. ولم تتزحزح الكلمة به قيد شعرة عما سبق إعلانه.
حقاً لقد علّمني هذا الجبل الذي صار سهلاً ما لم تعلمنيه المواعظ المرتلة ينتهي الولع بها دون الأخذ بفحواها.. عند ذهابها أدراج الرياح.. أو لدى استقبالها في أدب وتبتل ينتهيان كذلك بوقوفها بحدود طبلات الآذان الصماء.. أو اختراقها إياها لتدخل من أذن.. ولتخرج من أخرى.. عكس التعليم الحي النافع من الجبل تتوفر فيه مزية القدوة الحية.. والمثال العملي الصامت.
فعن طريق هذا الجبل بركوبي الحمير إليه ـ تعلمت الصبر ـ وأتقنت التأمل.. وسلكت منه وفيه أولى خطواتي بدروب الفلسفة لا تغني عن الشعر.. ثم باندماجي به كاشفاً لي في صراحة وبساطة أعماق قلبه تسللت داخل البوابة الخضراء لأستقبل هناك دنيا الشعر.. لا تعترف بالفلسفة.. ولا تضع أرقاماً للتاريخ.. عازفة تمام العزوف عن نصب الموازين أو مطففة لأقوال الناس.. في الناس!..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :755  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 35 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.