(30) |
قصة قصيدة.. جدة! |
وقبل أن أقطع صلتي بالشعر الموؤود والمنشور ذكريات مصورة حية.. وقبل أن أودع مدينة جدة في سياحتي النفسية.. وأنا قابع بالجبل.. فلا بد من وقفة قصيرة أستعيد بها وفيها ذكريات أول محراب شعري خلوي لذلك الفتى الحالم الذي كنته يوم أن عرفت الجبل.. وبعد أن أودع قلبي وديعته الوجدانية فيما قالته لي وديانه.. وزهراته.. وروابيه.. وغدرانه.. تغن بي حباً.. وغننى شعراً.. فأنا بلادك جزءاً من كل.. فسأكون لك الوقود.. والزاد.. وسأتراءى لك الأطياف في مستقبل حياتك تصليك بالشواظ يتلوه الشواظ.. وتحملك بعيداً عني بين صخور الحياة.. وأصلادها اللاهبة.. وصحرائها الجرداء.. أو تتلاعب بك أهواؤها الهوجاء.. مقهقهة ساخرة، لاهية فوق أمواج الأيام الهادرة.. وبين ثناياها الساكنة.. فلقد حملني بساط الريح.. السحابة الداكنة من الهدا بمجلسي به في ضيافة الصديق محمد عمر توفيق.. ومن فوق الركيب السندسي الأخضر إلى جدة.. وما زالت ترفرف.. وتطوف حتى استقرّت بي أخيراً فوق الهامات الصغيرة الحالمة لتلك الروابي المبثوثة.. والتلال المنثورة آنذاك خارج سور جدة.. وفي المنطقة الشمالية الغربية منها حيث تنبت وتتناثر. |
وعلى مقربة مما كان يسمّى يومها.. سقالة الإنجليز.. لساناً صغيراً من ألسنة البحر.. قامت هناك.. ولأمد طويل.. صفوفاً صغيرة متباعدة الظلال متقاربة الخيال.. حتى أتى اليوم الذي زالت نهائياً فيه. |
فأذكر.. وأتذكّر كيف كنا يومياً ودون انقطاع نودّع المدينة ـ جدة ـ في الأصيل وقبل الغروب أحياناً.. شأننا في ذلك شأن بعض سكانها المرتادين مجالسهم هناك.. والمعتادين على ذلك الارتياد اليومي.. نزهة للنواظر.. ومتعة للخواطر.. وفسحة للأجساد من عناء أعمالهم اليومية المكرور.. |
وعلى رأس تل.. عرف بنا.. كما عرفت جماعتنا به وقفت سحابة الذكريات حيث كنا نقضي الوقت فيما بين المغرب وقرب العشاء أو ما بعده بقليل.. صامتين إلا من هواجس نفوسنا.. هائمين مع خيالاتنا الشابة لا يحدها جو ـ أو يقف دون حدودها فضاء فكانت تنسج في رقة ـ وتأمل ـ وهدوء الخيوط الشعرية الأولى كما ينسج الفجر خيوطه الأولى يستقبل بها الدنيا.. تستقبل به الناس الحياة.. |
ولعلّ من نعميات الجبل أهوتني قمّته وسحابته الداكنة وقفت بي لدى أعزّ الأماكن لدى نفسي.. في مسقط رأسي أنني استروحت بتلك الوقفة الصغيرة ما غطت عليه الأيام.. وتراكم فوقها غبار الأعوام المتلاحقة دون حساب للزمن وفي غفلة عن ركضة اللاهث.. فقد تهيأ لي ذات ليلة أني نظمت قصيدتي ـ جدة ـ في جلسة واحدة فوق تلنا المعروف بنا.. والمعروفين به. |
وكنا ثلاثة أخوان أصدقاء.. عبد الحميد مطر.. عمر عبد ربه.. الداعي لكم بطول البال على ما يكتب.. وما تقرأونه.. أو لا تقرأون.. تمرّون به لماماً.. أو دون علم بوجوده في هذا الحيّز من عكاظ يتوارى به ظل هذا الجبل الذي صار سهلاً.. ولقد ألفنا ثلاثتنا أن نفارق سور جدة أصيل كل يوم لنقضي وقتنا الهنئ الساجي بين تأمل.. وخيال.. وذات ليلة ـ وعلى غير قصد ـ سرحت غير عامد.. لا مستهدف من خواطري شيئاً معلوماً وما أن همهمت في خفوت.. ثم في صوت مسموع.. وفي أعقاب حديث رائق عن جدة مادة ومعنى.. ومسقط رأسي ـ بأول بيت: |
لك يا جدة الحبيبة في القلب |
مكان محبب مألوف |
* * * |
|
حتى توالت الصورة في خيوط تشبه إلى حدٍّ كبير خيوط الدانتلا تنسجها يد الفن.. غرزة إثر غرزة.. بيتاً بعد بيت.. إلى أن تكوَّن هيكل القصيدة لا ينقصها إلا الكتابة.. فالتصحيح.. فالتنقيح.. فاللمسات الأخيرة.. لتكون.. |
ولقد كنا ثلاثتنا في شبابنا.. على حظ كبير من قوة الحافظة.. فما أن وصلنا مركزنا الليلي للسهرة ـ بيت العتيبي ـ حتى جاء شيخنا يرحمه الله بقرطاس وقلم ـ فتم الإملاء.. وكملت القصيدة.. عن البلدة الحبيبة المحبوبة نشترك كلنا في التعصّب لها.. وفي التغنّي بها.. حباً لا تقوم أصوله على معالم جمال بارزة.. أو مذكورة.. ولكنه ذلك الحسن ـ والحلاوة على الأصح ـ من النوع المستور المحسوس.. أو الخفي المبين.. كما سميناه في قصيدة أخرى من حديث غزلي طويل.. |
وربما كانت الأنانية الغشيمة لا يبررها مسوغ عقلي بارز هي التي تسوقني لتخصيص هذه القصيدة عن جدة ـ ذكرى ـ وموضوعاً قد لا يشاركني الكثير ـ أو الكل في جدارتها بهما وربما كان الدافع كذلك لون من ألوان النرجسية.. ولكني بباعث مجهول صادق أستطيع أن أؤكد أن الأمر غير ما ورد وما قد يرد.. ولكنه ما قد أستطيع إيجازه نزولاً على التعليل العقلي الواعي في سرد العلة والمعلول.. في الآتي: |
فأولاً ـ لقد دفعت هذه القصيدة فيما بعد بعضاً ممن أحب وأقدر لمعارضتها ـ وفي مقدمتهم الصديقان الشاعر الكبير الأخ حمزة شحاته ـ والشاعر المجهول أخي المرحوم محمد سعيد عتيبي أما حمزة فقصيدته منشورة معلومة وأما العتيبي فقد ضاعت قصيدته فيما يلوح لي فيما ضاع من أثره.. وآثاره.. |
وثانياً ـ وهو الأهم ـ فقد أصبحت هذه القصيدة لدى قارئيها فيما بعد إحدى مصادر التفسير لهذا الحب اللاذع والهادئ معاً لهذه البلدة ـ جدة ـ ممن نزح إليها، فاستوطنها.. من إخوان لنا من مكة ومن المدينة.. ومن سواهما من سكان هذه المملكة الأوفياء. |
وثالثاً ـ ولعلّه النزعة الوجدانية الملحّة الصادقة.. الرغبة حيناً في الخروج من صدفتنا القديمة.. يسميها الناس صفة التواضع.. ونسميها القوقعة الذاتية المباركة.. نتنفّس بعيداً عنها.. هواء جديداً علينا.. ونفرح قريباً منها بأصوات غريبة عنا.. |
ولا بد لاستكمال القصة.. من ورود الصورة ذاتها.. أو معظم أجزائها بالأحرى.. لسد الخانات الواردة سلفاً.. في التفسير المظنون.. أو في التعليل المرجو القبول.. |
|