(28) |
زقاق المضاربة وَكَشّ التراب |
.. ويستمر الخفقان بقلبي وجيباً عالياً يخضع سمعي لدقاته.. وتتركّز نظراتي على مرائيه البائدة.. فأتصور بيتنا القديم، والزقاق، والبرحة، والمدرسة، وما كان يجري بين كل منها.. وفيه من عادات يومية وتقاليد.. فأجدني باعتباري الصبي الصغير في العائلة مكلَّفاً في الصباح بحمل زبدية الفول وبعض القروش لقضاء العيش الصامولي، والمفرود، مراعاة للأذواق المختلفة بالدار.. وملء الوعاء بالفول وبالسمن البلدي أو بعض الطحينة أحياناً.. والعسل الأسود.. كعادة مطردة لا تختلف إلا في يوم الجمعة حيث أصحب والدي إلى الحلقة.. ومن بعدها إلى دكان المطبقاني لتحضير الفطائر ـ المطبق ـ المالحة منها بالبيض والمفروم، والحلوة بالجبنة الزقزق والسكر، أو بالموز والسكر.. |
ولا نكاد نحمد الله عند آخر لقمة من الفطور حتى أسارع إلى المدرسة وبين يدي بعض كتب الفقه أو النحو أو سواهما.. متمتماً بما فيها حفظاً بالغيب كالمويه، أو كالبلبل، كما كنا نسمّي الحفظ المضبوط.. والسير على قدمي الصغيرتين حافياً إن قدم مداس العيد أبو خرزين، أو منتعلاً إياه إن كان به رمق، وبالمناسبة فقد فرحت زمناً طويلاً بحذاء كنا نسميه ـ التلِّيك ـ وهو من نوع الشباشب.. كان قد أهداه إليّ أحد أخوالي في عودة مباركة له من بومباي حيث كان يعمل موظفاً لدى الحاج محمد علي زينل صاحب ومؤسسة مدرستنا بجدة كما علمت فيما بعد.. |
وكانت الفسحة لنا مصدر بهجة ووقت أنس وانطلاق، نتمرّن فيها على المطارحة، باطاً لباط، أو باطين لباطين، والمطارحة نوع من المصارعة الحرة الحديثة، أو نلعب الكبت ـ مثلاً ـ بعد أن نملأ بطوننا من القتاء أو الخيار بالشرش.. أو من أقراص الدخن بالملح بعض الأوقات أو نقوم ـ والحق يقال ـ أحياناً بمساجلات شعرية من محفوظاتنا، تقوم القاعدة فيها على أن يبدأ كل من عليه الدور ببيت شعري يكون أول حرف فيه آخر حرف من البيت الشعري للقائل السابق.. ثم نعود إلى فصولنا بمجرّد سماعنا ـ الصفيرة ـ الطويلة معلنة انتهاء الفسحة.. وهكذا دواليك.. بين كل فسحة وأخرى حتى يحين موعد الانصراف في الظهر، لأعود راكباً رجلي حافيتين أو منتعلتين من المدرسة إلى البيت لأحمل لوح العيش إلى الفرن.. وهنا كانت تتجلّى مهارات الصبيان أمثالي في تقديم ألواح عيشهم عن الآخرين في ـ السرى ـ على امتداد الصف الطويل المتلاصق.. يتميّز كل لوح فيه بنوع الخرقة المغطّى بها، مع احتمال نشوب المعارك اليدوية، المضاربة، بين صبي وآخر، لا تفصلها إلاّ كلمة تخرج من بين شفتي الفران في صوت غليظ مفزع ليتقرر لمن الحق في سرى الألواح. |
وكانت لنا في الفترة بين نصفي النهار نقضيها في الذهاب لبيوتنا للغداء والعودة ثانية للمدرسة.. فرصة لتكوين الصداقات مع زملائنا بين مجاذبة الأحاديث المختلفة والمزخرفة بألوان من خيالات المراهقة.. ومن حسن حظي أن عاشت لي صداقات متينة من ذلك التاريخ إلى وقتنا الحاضر، أو القريب منه.. وماتت خصومات صبيانية كثيرة. |
وما زلت أذكر أنه كان هناك زقاق ضيق قرب المدرسة سميناه ـ زقاق المضاربة ـ وكان الموعد الطبيعي لملتقى كل خصمين يريدان بعيداً عن الفصول أن يصفيا حسابهما بين حلقة من الزملاء كشهود على الغالب والمغلوب.. وكنظارة متفرجين همهم أن يثيروا أوار المعركة بواسطة حفنات من التراب يكشونها بين الغريمين للإثارة، وللاشتباك.. ولاستمرار المعركة.. ومن هنا جاء تعبير ـ كش التراب ـ الذي أحيينا تداوله حديثاً لنستمتع كباراً بما كان مصدر تفريج عن غرائزنا المكبوتة صغاراً.. حيث لا مجال لها بعد ملاعب الكرة.. للتفريج.. نرى فيها ـ عكس ما يراه سوانا من الكبار والصغار.. فرصة حيوية حية لتحريك ماء حياتنا الفكرية.. الاجتماعية، الآسن. |
كما كانت أيام الجمع، في الحواري، والأزقة، والبرحات، وعلى شواطئ بحور الطين وأبحر وأبي العيون.. أعياداً شعبية تمارس في ساحاتها كل الألعاب الشعبية السالف ذكرها في أحد فصول هذا الجبل الذي صار سهلاً.. |
وربما انقلب أحد هذه الأعياد إلى معركة ضارية تبدأ بالأيدي والأرجل لتنتهي بالحجارة بين أبناء محلتين متجاورتين، ولا زالت جبهتنا تحمل آثار بعضها مما يثبت لنا بعض البطولات الصبيانية.. الزائلة. |
أما أيام الأمطار، ومن الغريب أنه كانت لها مواسمها المنتظمة في ذلك العهد القديم البائد ـ فقد كنا نذهب خارج سور المدينة ـ جدة ـ بقصد صيد الدَّبا والجراد، وقطف أوراق الشقلا، بقلا، خبيزة، أو سرقة ما تيسّر من الحبحب ـ البطيخ ـ من بستان عبد الجليل وكان موضعه بعد مقبرة الأسد على يسار الصاعد من طريق مكة ـ إليها... |
وكانت المتعة الكبرى في خروج أفراد العائلات، الرجال والشباب، يصحبهم الأطفال لمشاهدة مياه الأمطار المتجمّعة في الصحيفة، أو في الشرفية، فيتخذون مقاعدهم على رؤوس الروابي بهما.. يشربون الشاي.. ويستمعون إلى المجسات، أو على من يقذفون بأنفسهم وسط المياه للسباحة فيها، كأبطال سباحة لم تقنعهم أمواج بحر الحجر أو بحر الطين. |
كما أن من لذاتنا الكبرى صغاراً.. صيد الطيور.. نلتمسها في الكِدْوَة.. وفي المشهد ـ مصلى العيد ـ وفي سواهما من المحلات خارج السور، وكان صيدها فناً في ذاته وفي مشتقاته حيث نتفنن في عمل الشباك، وفي الأغاني نستدرج بها مع الصفير المناسب لكل منها.. العصافير.. والهداهد.. وما إليهما.. من أمثال.. يا عصيفر بلنصا.. ويا هديهد هلاوا.. |
ولقد كانت أكبر الدروس خرجنا بها من هواية الصيد منذ الصغر.. الصبر، الصبر الجميل لا تطيقه طباع الصبية المتحرّكة لا تستقر على حال.. حين يربض الواحد منا زمناً ليس بالقصير عند طرف الحبل لشبكته في انتظار الطير يتهلى قريباً منا مدفونة تحت الرمل كمن يحوم حول الحمى.. في أناة.. وغفلة.. بل وفي دلال أحياناً.. كما يصور تلك الحالة بحق.. المثل القديم القائل: |
الطير يتفلى.. والصياد يتقلى! |
|