(27) |
قال الراوي.. |
يا سادة يا كرام..! |
ولتسديد حساب هاته الذكريات.. نقلاً عن دفتر الأمانات بها.. فلقد كانت إحدى مشاويرنا ذات أصيل السبب المباشر في تاريخ ـ الحلمنتيشيات ـ كما ذكرنا في فاتحة الديوان الأول من المركاز وخلاصتها.. تحدي حمزة لي في أن تكون لهجتنا المحلية قابلة لشعر الحلمنتيشيات أو المشهورات على طريقة المرحوم حسين شفيق.. وقبولي لهذا التحدّي.. وعمل حلمنتيشية تنشر بالجريدة وكان موضوعها ـ مشروع القرش ـ الذي كان في حينه مشروع اليوم ـ على طريقة طبق اليوم.. وربما كان لها وله حديث آخر.. |
وأقرر ـ دون فشر ـ نجاح المحاولة كما دلّ عليه الارتفاع في توزيع أعداد الجريدة ـ صوت الحجاز وكانت أسبوعية ـ ارتفاعاً ملحوظاً.. وملموساً.. فقد صحب القصيدة من باب التنويع أيضاً باب التعليق الفكاهي على الأحداث الأدبية والاجتماعية الأسبوعية تناولت الأستاذين أحمد السباعي صاحب السلم ـ سلم القراءة ـ وحسن الكتبي ـ حامي حمى ـ أبعاد الحقيقة.. ثم امتدت إلى سيارة الأستاذ هاشم الزواوي التي كان يقرشها في منور البيت والتي كان يحتفظ كل من ركابها القلائل بمقعد جلوسه بها في بيته.. لحين الركوب بها في حينه.. إلى آخر ما وصل إليه ذلك الباب الواسع.. ولعلّ تسميتنا لكتابينا المطبوعين والمجموعة بهما تلكم الحلمنتيشيات.. بالمركاز.. إنما كان إخلاصاً منا (للمركاز) في حياتنا.. المركاز.. بما فيه من حياة.. وفن ـ وأدب ـ وتاريخ.. المركاز الذي نعتبره في تاريخنا الممتد ـ النادي الأدبي.. دون تسمية أو تدشين.. |
ولعلّ ذلك من الغريب.. كلون آخر من ألوان الوفاء ـ أن تتوالى قوافل ذكرياتنا بالقرب من الجبل الذي صار سهلاً.. وتحت غصون الأشجار بالهدا يزخرف جو سمائها الغيم اللطيف ورذاذ من هتانه المتقطع.. ووشوشات من مائه.. وهمسات من زقزقات عصافيره.. ونغاريه.. في مركاز الصديق محمد عمر توفيق فتتصل نوازع الخمسينات بالثمانينات.. في ذهن سابح.. غير سارح..؟ |
وأذوب بعد ذلك في دنيا الذكريات.. نفساً شفافة تحملني وأنا بالهدا.. وفوق قمّة الجبل أكسيت غمامة داكنة.. طائرة.. وكأنها بساط الريح السحري.. فأجدني في لحظات.. في محلة اليمن بيتنا القديم.. بسوق العلوي في جدة أرى من خلال أرضية الروشن الخشبية منظر الكراسي الشريط عليها الرجال وكأن على رؤوسهم الطير ينصتون إلى الراوي.. يسرد عليهم في صوت منغم مؤثّر فصلاً مثيراً من فصول سيرة عنترة بن شداد.. وهم أبصار شاخصة إليه.. وأسماع معلقة بشفتيه وقد نسوا فناجيل الشاي ـ أو القهوة ـ أو القشر وهو غلاف حبات البن أو النعناع وقد برد ما فيها وكأنها لم تكن.. لأن شاربيها لم يكونوا أمامها.. بل كانوا وراء مسيرة عنترة في البراري والقفار.. |
وأجدني ملزماً لإبراز شخصية الراوي في حياتنا السابقة.. فلقد كان للمقاهي الشهيرة لدينا رواتها يقرأون لزبائنها كل ليلة.. إحدى سير.. الزير سالم.. أبو زيد الهلالي ـ الظاهر بيبرس.. عنترة بن شداد.. وهو أحبهم للنفوس.. وبقدر ما تتوفر للراوي ذلاقة اللسان وحلاوة الصوت.. وحسن السكوت لدى المقاطع الهامة.. يكون الإقبال عليه وعلى المقهى المخصص له. |
وللرواة الشعبيين بعد ذلك قدرتهم الفائقة على اختيار النقطة الحساسة من الرواية يختمون بها القراءة تشويقاً واجتذاباً للزبون السامع لحضور التفصيل فيما تلاها في الليلة التالية. وتحضرني بهذه المناسبة أقصوصة صغيرة تضفي على ما نقول تفسيراً واضحاً.. وعلى براعة الراوي بأهمية كبرى.. والأقصوصة تقول: |
كان من بين المستمعين إلى أحد الرواة لسيرة عنترة رجل لم يطق أن يقف الراوي عند فصل حساس انتهت نقطة الرواية فيه إلى وقوع عنترة أسيراً لدى أعدائه سجيناً لديهم.. فما يكاد هذا الرجل يصل إلى داره ويتصوّر أن عنترة الفارس المغوار والشجاع المحبوب ملقى في الأسر حتى أظلمت الدنيا في عينيه.. فركل طبلية العشاء.. ونهر زوجته وأرغى وأزبد بما لا يحسن قوله من رذيل السباب والشتائم.. ولم يطق صبراً.. بل قام من داره وذهب إلى الراوي في بيته وبعد أن طرق الباب وفتح له.. طلب مقابلة الراوي.. الذي كان يتهيأ للنوم.. وبسط له حالته النفسية لا تطيق أن يكون هو هانئاً بحياته.. وبعشائه.. وبأهله.. لن تجد الراحة.. ولن يجد النوم إليه سبيلاً وعنترة البطل في سجنه بين أيدي أعدائه.. فأفهمه الراوي بأن الموعد للفصل التالي الليلة التالية في المقهى.. فأجابه لكنني لا أستطيع الصبر إلى ذلك الوقت.. بتاتاً وابتدأت المساومة في مهارة من الراوي، وفي اندفاع من الرجل المتلهّف على إطلاق بطله من سجنه.. وبعد حساب دقيق لحصة الراوي من دخله الرسمي بالمقهى.. ومما يحصله خصوصياً.. مما يدفعه له الزبائن مناولة.. استعد الرجل للدفع.. ودفع ذلك فعلاً.. وحينذاك أحضر الراوي الجزء المطلوب من السيرة أخذ في سرد الحوادث والأحداث اللتين انتهيا أخيراً بحصول عنترة على حريته وخروجه من سجنه.. |
وهكذا تنفس الرجل الصعداء وعاد لبيته حيث تناول عشاءه هنيئاً مريئاً بعد أن وقف قبالة الزير المغربي وأخذ ترويشة رائعة رج بعدها العراقية والفوطة وراح في سبات عميق تتخلّل أحلامه رؤية بطله المغوار وقد شاهد عبلة وأخذ يبثها لواعج الفراق فتنهد الرجل بدوره وأزعج زوجته النائمة إلى جواره.. شارحاً لها ما كان بين عنترة.. وعلبة.. بعد فكاك البطل الأسير.. |
هكذا كان الراوي ـ في المقاهي.. ببلادنا، وكذلك كان تأثيره ونفوذه.. مما جعل لكل بيت راويه المفضّل.. فقد درجت بيوتنا ـ بالحجاز ـ لآنذاك جمعاً لشمل العائلة وقضاء للسمرة فيما يشوق ويروق على أن يكون لها راويها.. وغالباً ما يكون واحد من الصبيان طلبة المدارس.. |
وأتصور في سياحتي الفكرية كيف كنت في بيتنا الراوي لتلك السير.. نستأجر أجزاءها من العم الموصلي بالحراج.. ثم من العم محرم بسوق الجامع.. وكلما انتهى جزء أعدناه لاستئجار الجزء التالي له.. حتى تنتهي سيرة عنترة.. فنبدأ بسيرة بيبرس ـ أو أبي زيد الهلالي ـ وكان نصيبي بالبيت من الحفاوة والإكرام نصيب الراوي في مقهاه ـ فمن بعد غروب الشمس وانتهاء صلاته.. توضع بالشتاء المساند في ركن من أركان المجلس أو الصفة.. ثم يطبق اللحاف أربع طبقات ليحل محل المقعدة إن لم توجد.. وعلى طبلية صغيرة توضع القمرية.. وأمامي طبق به بعض حبات من النبات الشيناوي.. وما تيسّر من نُقُل الشتاء مع أبى فروة.. وأكواب السحلب.. ويتحلّق أمامي في حلقة ملمومة أفراد العائلة من السيدات الطاعنات في السن.. والانصاف.. والبنات.. والصبيان لأسترسل في سرد إحدى تلك السير.. |
أما في الصيف فينتقل المجلس بترتيباته ولوازمه وآدابه وتقاليده إلى السطح الحليق ـ أو ذي الطنف الواطي ـ ولا يختلف عن سابقه إلا في إحلال كؤوس السوبيا.. أو أكواب عليها الزبيب النباتي.. محل السحلب.. والشاي.. |
ويخفق قلبي خفقاً رقيقاً متصلاً باستعراض تلك الصورة التي أكتفي بلقطة منها ليرى أبناء الجيل الحاضر أن البون وإن كان شاسعاً بين المسلسلات البوليسية أو سواها يتحلقون لسماعها من المذياع اليوم.. أو من التلفاز حيث يقوم المذيع.. أو مراقبة البرامج بما كان يقوم به الراوي في المقهى إلا أنه متحد في الوقوف بهم في نهاية كل حلقة لدى النقطة الحساسة منها.. مما يثبت أن لا جديد في الأسلوب البشري إلاّ في استعمال الأدوات الحديثة بدل القديمة لإبرازه. |
|