شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(26)
المركاز.. بين زقزوق.. وظريفه..!
وما نتج عن طبيعة الكشف المطلق.. لا يؤثر خيالاً.. ولا يحرّك فضولاً.. ولا يترك للتصور مجاله المفروض حتى ذات الأعراض غثياناً.. عن رؤيته كذلك.. وشاع الاسترخاء.. عن متابعته.. دون ستر.
وأشهد أننا مع ما ألمعنا إليه عن الرشوة.. وعن السفور.. بما درأ الفتنة لدينا على الأقل من سلطانهما.. فإنا أشرنا.. للقاء آخر.. بقاء هاتين البدايتين من أبواب القضايا الاجتماعية الإنسانية الحاضرة.. مواربتين للعودة إليهما.. استدامة للتمارين الفكرية تشغل ذهن الباحث عن الحقيقة لذاتها.. لتجدد بها خلايا الدماغ.. وإبقاء للنوافذ الذهنية مضاءة في ميدانه الفسيح نكشف من خلالها ونكتشف مواقع ومواضع زوايا الظلام.. بما في ذلك المقارنة بين التعطيل التام أو الاستفادة الكاملة من نصف كياننا البشري تمشياً مع قول من قال:
يصعد الشعب بجنسيه أناث.. وذكور
وهل الطائر.. إلا بجناحيه يطير
كما أشهد أن يومنا في مجلسنا بالهدا.. كان يوماً حافلاً بكل ما فيه ـ بذكرياته ـ بأبحاثه ـ بما قلناه، أنا والصديق محمد عمر.. قديماً.. وجديداً.. ومفيداً له.. سلوانا عن مشاغله الرسمية لساعات.. ولي أنا بالأخص.. تلهيه عن متاعبي لحالة الجبل تدوسه الهراسات.. ويفعل فيه الديناميت المتفجر أفعاله على مقربة منا.. وبمسمع من أذني الصاغيتين لهدير الآلات الثقيلة.. وصوت التفجيرات القوية.. بقلبه الرقيق.
واستمرّت الجلسة.. وطاب المجلس تزينهما رشرشة الهتان المتقطّع.. وتناثر الغيوم جارية ـ هائمة، حائمة فوق رؤوسنا.. وتتوالى مرفرفة بِجونا الساحر خفقات أجنحة النغارى والقماري والعصافير تتجارى من غصن إلى غصن.. مما دفع بالصديق الوزير أن يندفع في كرمه مع سخاء الطبيعة إلى مد دعوة الغدا.. وقد أجبناها.. مجددة.. إلى دعوة للعشاء سليقاً ممتازاً كان جوار الجبل.. وكانت قمّته أصلح الأمكنة لتناوله.. وقد كان.
وبأسلوب الشيء بالشيء يذكر.. فقد أعادني هذا اليوم الفكري إلى أيامنا القديمة الأولى بمكّة المكرّمة حيث كنت مقيماً بها.. في الخمسينات الهجرية.. صاحباً.. ورفيقاً.. وزميلاً للأخ حمزة شحاته ليعمل نهاره في عمله بشركة التوفير والاقتصاد، وأعمل نهاري بجريدة "صوت الحجاز".. حتى إذا صلّيت العصر.. قمنا راجلين من آخر محلة الشامية وأول محلة الشبيكة بالذهاب إلى نهاية جرول مما يلي ـ البيبان الآن ـ لنتخذ من كراسي الشريط هناك مركازنا المعلوم يتوافد إليه جلساؤنا اليوميون ومعظمهم من الناشئة والشباب مثلنا ويدور البحث.. أو السكناب كما كنا نسميه.. يتناول قضايا الساعة الأدبية مما نشر وما هو تحت النشر.. ومما لا يكتب له النشر.. أحياناً.. أو طول العمر..
وحمزة ـ كما هو معلوم أو ـ مجهول ـ أبو السقراطيات تبدأه بسؤال يولد أسئلة وأجوبة لا تنتهيان في يوم ـ في سنة ـ في شهر.. ويشترك فيه الكل بين سائل ومجيب عن الفن للفن.. والفن للحياة.. وعن الآراء المطلقة والمرفرفه رفرفة الهواء الطليق ـ وعن الأدباء والكتاب والشعراء.. نقداً مركزاً كما كان يقول العريف وكان يافعاً على أبواب رحلة دراسية حرة بالخارج استشارنا في أمرها فأشرنا عليه بها.. أو منقطاً مفقطاً كما كان يقول أحمد عمر عباس في لهجة مكسّرة بين العربية ـ وبين الإنجليزية التي كان في سبيل إتقانها يخاطب بها الكرسي.. والبراد.. وصبي القهوجي يطلب منه.. "ون قلاس".. "كافيه وزملك" فنجان قهوة بلبن.. أو نقداً عارياً كما كان يريده الساسي عبد السلام وقد تناثر من فيه على وجه أقرب جليس له رذاذ ريقه غير المعسول.. أو استطراداً يمتد إلى كيان "العروبة" العام ومفهومها آنذاك.. وآدابها.. كما كان يريد الخوض فيها بتوسع الأخ محمد على مغربي الذي ظفر.. غير منازع.. بلقب العروبة بين الجماعة.. أو كما كان يشتهي أي جليس ممن كانوا يغشون "المركاز" وهم كثير..
وللعلم ـ فقد انتقل هذا المركاز بعد سنوات ـ إلى "الحقل" كتسمية محمد عمر له.. بآخر المسفلة على طرف ناشف نسبياً من أطراف بركة ماجد، أو ماجن.. أو ماجل.. وانضم إليه مع من سلف بعض من وفدوا من المدينة المنورة لمكة كمحمد عمر.. والبصراويين أنور.. وفريد، وجذبا إليه عزيز ضيا دون ممانعة أو تثاقل.. حتى أصبح بعد حين من الزمن التطور.. لم يشملنا.. فرعه الكبير بيت حمزة بالمسفلة، ثم في آخر الأزمان بدار الزيدان.. بعد انتقاله من طيبة إلى أم القرى حيث أطال المكوث واللبث.. وقبل أن ينزح إلى أخت البحر. وأعود بالذاكرة دون ترتيب لذكرياتها.. للخمسينات.. ولما هو خاص بي وبحمزة شحاته كشقير برشومي ربطت بينهما الدقائق والساعات والأيام حتى لقد أصبحنا فيها نمثّل دون نكران في رابطة الأدب الزوجية آنذاك.. دور زقزوق وظريفه.. فكنا ما نكاد نقفل محضر مركاز (البيبان) بجرول أو مخارج مكة ـ راجلين ـ حتى نعود كذلك إلى أجياد للسهرة ببيت القزاز يوم أن كان الأستاذ حسن فتى متوفر الإحساس.. حريفاً في الطاولا.. ثم في الكيرم.. يدل على ولعه بهما ثم بالأدب وبالأدباء صوته الجهوري المسموع حتى باب السلام.. حيث لا تخلو السمرة في أية ليلة من بحث أدبي رائق.. أو مجالات فكرية ممتازة..
ولا نكاد نقضي السهرة حتى ننطلق لآخر مرّة ـ راجلين ـ إلى قهوة العم حمزة والتي تقع يومها أمام كوشان الجمال.. واليوم حيث مقر الشركة العربية للسيارات.. بقصد المنام فيها بمركازنا المقرر المحجوز لنا على الدوام.. وكنا نأخذ كل ليلة.. دون تغيير.. المشبوك.. وهو تعبير أدبي ورمزي.. لعشائنا المعتاد المكون من شريكتين ـ حتة جبنة ـ وقرطاس ملح.. على أننا لا ننسى بين أسبوع وأسبوع أن نشتري بعضاً من النعناع لمزجه ببراد الشاي حيث يحفظه القهوجي لنا في حرز مصون.. وهنا ـ كما يقولون بيت القصيد ـ فإننا لا يكاد كل منّا يستلقي على كرسيه الشريط بعد العشاء متهيّئاً للنوم.. حتى يثور سؤال ما.. أو تنبعث فكرة قابلة للمناقشة حتى نودّع النوم.. ويجلس كلٌّ منا القرفصاء في كرسيه بلحاف.. أو دون لحاف.. وقد أخذ المركاز آنذاك ـ كسيرة ومقر ـ طريقه إلى البعض ممن كانوا ـ يطبون علينا فيه ـ أو يشاركوننا بعض الليالي المنام ـ بل السهرة الطويلة على الأصح.. به وفي طليعتهم الأساتذة المغربي، الساسي، المرحوم عباس صيرفي.. أحمد عمر عباس.. وسواهم..
وتنداح الذكريات حتى تتركّز على الجانب "الغاندي" منها آنذاك.. فالعشاء شريكة وحتة جبنة وملح.. يعقبه براد شاي صرف.. أو ممزوج بقليل من النعناع.. وكثير جداً من أبحاث أدبية.. ومجادلات سقراطية.. أفلاطونية.. سفسطائية.. حتى قريب الفجر.. والمواصلات.. موتو رجل.. في كل مشاويرنا المعتادة.. أربع مرات من محلة الشامية حتى خارج مكة.. دون أن تزعجنا.. أو تقطع بحثنا خلالها أبواق السيارات التي كانت في حكم غير الموجودة لندرتها.. ومن ذلك.. فيما أرجح.. كانت الإشارة في مستقبل الأيام لقولنا:
فمد الخطو مشواراً طويلا
فتلك رياضة الأدبا.. يعبدو
بها الرومتزم لم يعرف طريقا
إليك ولا التكرّش.. حيث تعدو
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1095  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 30 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.