شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(24)
تحت المكياج
وكما يسوق البدوي حنينه إلى الأطلال.. والدمن الخوالي.. وكما تنبعث في النفس المحبة ذكرى حبيبها الأول.. في هواها البكر.. في قرصات لذيذة تدغدغ مكامن الشعور وفي همسات خافتة تنادي مسامع الوجدان.. فقد حننت إلى الجبل.. كرا.. حبيبي القديم.. وقد لاحظ الصديق المضيف روعة لحظات الهيام تكشفها ملامحي الحزينة.. وعبراتي الصادقة.. فأخذ يسرد على ما يجري ذلك اليوم من عمل ضخم جبار.. لجعل الجبل سهلاً.. وطريقاً عصرياً من أحدث الطرق وأجملها.. وإن بإمكاني إرواء وتجديداً لعهد بائد قيامك بإطلالة خاطفة عليه لترى ما نصنع به حتى يعود أقوم.. وارشق.. وأحلى مما كان.
ولقد هممت بدافع التحريض ـ وبإلحاح من شوقي الزائد للجبل.. بالذهاب إليه.. بل وبالنزول منه بسيارة خاصة.. وبإذن خاص.. ولكن الذي حدث كان غريباً في بابه.. فقد أنكرت نفسي مجاراة لبداوة حبها وحنينه واحتفاظاً منها بالصورة القديمة الحلوة لحبيبها أن أراه تحت أقدام الدركترات.. والهراسات والمعاول.. وقد كشف لها صدره عارياً.. بعد أن أحنى قامته.. وفتح لها قلبه.. وأباحها جسده وثناياه تفعل به ما تشاء..
بل لقد اقشعرّت نفسي وخشيت أن أراه كذلك.. تماماً تماماً.. كما يقشعر ويخشى المحب أو القريب لا يجرؤ أن يرى حبيبه أو قريبه طريح المستشفى.. وفوق كرسي العمليات تجرى له أخطر عملية جراحية.. حتى لو كانت تلك العملية ـ كما كانت لكرا ـ عملية تجميل.. ليصبح بعدها جبلاً جذاباً ممشوق القد ناحل الخصر.. لا فضول فيه قد زالت من وجهه تجاعيدها.. ومن أطرافه.. كشاويه وزوائده.. وفارق أعضاءه تصلبها.. وسلسلة ظهره يبوسة فقراتها المتصلة الحلقات..
ولعلنا من تلك البادرة من نفسي ومني تأخذ فكرة عملية على أن هناك صنفاً من المحبين لا يودون أن يروا حبيبهم إلاّ في الصورة التي ألفوا أن يروه عليها باعتباره الصورة الأولى التي رأوه بها.. فأحبوه كذلك..
بل وأذكر مصداقاً لما ذكرت أن جاراً قريباً لنا فيما بعد كان لا يحب أن يرى حليلته إلاّ في كرتَتِها الساتان غير المشجّر.. بوجهها الأسمر الجميل طبيعياً دون ألوان.. وبشعرها المتناثرة بعض شعراته على أطراف جبينها.. وبرؤوس أصداغها.. وعلى جانبي كتفيها.. وحتى ما فوق ركبتيها من الخلف.. في إهمال لذيذ..
ولقد سمعنا ذات مرّة لم تتكرر.. صراخاً وعراكاً وهياجاً دب كل ذلك بينهما بسرعة انتشار لهب الحريق، وبذهاب بعض عقلاء العائلة وقد انحشرت خلف إحداهن بدافع الفضول ـ تبيّن أن السبب في ما أصاب الرجل المحب الوامق هو أن حليلته بإغراء من جارتها الجديدة المودرن قد قابلت رجلها بلون محدث وبسمت جديد.. فقد تلون وجهها بالأحمر.. وبالأبيض.. وبالأخضر دون مراعاة لسمارها الطبيعي الحلو واختفى قوامها الرشيق داخل فستان بدعة من بدع الموضة.. أما شعرها الليلي الطويل الجميل المنسدل حتى ما دون ظهرها فقد زال معظمه ليبقى مكوفراً في ثلاث دوائر كالكعكات فوق رأسها.. وكان ما كان بينها وبين رجلها الذي فقد الصورة المحبوبة فيها ففقد عقله.. شأني تقريباً في تلك اللحظات الرهيبة التي أرادوني فيها أن أرى حبيبي ـ كرا ـ تحت المكياج!
ولا أطيل.. فقد مضت مدة.. وأنا نهب عواطفي وأحاسيسي الملتهبة المضطربة تجاه كرا الذي لا يبعد عني أكثر من أمتار معدودات ومع شعوري بصدق العزاء الجميل يقدمه لي الصديق محمد عمر توفيق في صورة استعراض للخطوات التي تمّت في إصلاح الطرق الفرعية بمدينة الطائف وضواحيها ومنه إلى الهدى نفسه.. بالإضافة إلى الطريق المعجزة مشيراً إلى الجبل دون أن يذكر اسمه صراحة.. حرصاً منه على موضع الرقة من قلبي لذكراه.. وعدم إيقاد نار الشوق إليه.. ونثر الذكريات العزيزة بسردها في مجلس غير مهيّأ له فقد شغلت أصحابه أكة اللال وصر الشيريا عن كل ما عدا ذلك خشية كل رفيقين متقابلين من أن يكون شرب "القهوة" ممزوجة بتقريق الحاضرين.. نصيبها.
وحتى أسلو كرا ولو مؤقتاً.. فقد تجاسرت أخيراً وبعد التغلب على حنيني القديم والمشتعل المتصل بهذا الجبل فأخذت أسرد للصديق ما رأيته جديداً عليّ في كل من مكة ـ وجدة ـ والطائف.. بعد غياب عن المملكة متصل ومنقطع جاوز آنذاك ستة أعوام..
فقد رأيت مثلاً.. في جدة.. جدات حديثة.. تزهو منطقة الشرفية منها بفيلاتها الأنيقة الرشيقة في شوارعها الممتدة الطويلة.. ويتيه الرويسان الأعلى والأدنى بتلك الدور والفيلات الجدية وهكذا بقية المناطق خارج مواقع السور القديم.. بما في ذلك المساحات الطويلة العريضة وراء كل منها حتى لقد أصبحت لا أجسر على التغلغل بعيداً عن دار الضيافة التي أسكنها لدى العائلة حتى لا أتوه فيها أو أضيع نهائياً بينها لينادي علي يا من شاف الرجال ـ بدل الولد ـ الضائع..
أما الحال في جدة نفسها جدتي القديمة والتي أعرف كل شبر مألوف فيها فقد هالني.. وإن أثلج صدري ونفسي.. ما آل إليه ـ عمارات ضخمة ـ وشوارع عريضة.. ومعارض ـ وحوانيت.. وأسواق على أحدث طراز تزخر بأحدث الموديلات من مائة صنف وصنف.
ويوم قدر لي أن أصعد إلى أبحر عصر جمعة ما.. ورأيت الأفواج من الناس والأرتال من السيارات على طول الشواطئ هناك تذكّرت دون حسرة على طفولتي وإلى غير رجعة لصباي.. الأيام الخوالي الخرافية التي كانت تذهب الجماعات فيها.. إلى بحر الحجر المواجه لفندق البحر الأحمر للاغتسال فيه كعلاج من الحمى في دورها الأول الذي كنا نطلق عليه "الدخدخة".. كما لاح بخاطري أيضاً منظر البشر كانوا يقصدون بحر (أبو العيون) لمعالجة ما بعيونهم من رمد أو عمش أو طشاش.. وهو البحر الذي قامت بسرعة على شطه الأبنية والورش، ويمتد على قسم كبير منه المعرض العائد للصديق محمد علي مغربي، والذي كانت تقوم قديماً بجوار شطوطه رواب صغيرة من ملح الطعام. واسترسلت أمام صديقي المستمع في جلاء مرئياته السارة والعديدة بجدة أطوي معظمها.. لأصل منها إلى مكّة المكرّمة ـ. وقد أذهلتني كثيراً أثوابها القشيبة في كل شارع.. ومنحنى.. وزقاق.. وجبل.. حتى لقد أحسست فعلاً أني أسير في مدينة جديدة عليّ غريبة عني. لاهجاً بالحمد المتواصل مثنياً من كل قلبي وجوارحي على العاملين جميعاً لجعل المدينة المقدّسة مثلاً ممتازاً يجب أن يحتذى.. مستغرباً الغرابة كلها أن يتم في مثل ذلك الوقت القصير هذا العمل الجبار الضخم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :777  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 28 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.