شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(19)
عسل وشعر ومطر
ووصلاً لما انقطع من حديث، فإن على العودة من جنيف ـ للشيخ عودة في وادي الأعمق.. لأقول أن للشيخ مع ما ذكرت في جلسته اليومية بين أولاده.. وأحفاده.. سمتاً.. وجلالاً ومهابة.. يضفي عليهم وعليه الحنان الطبيعي الصادق رقة إنسانية نادرة.. حباً فطرياً نابعاً من قلبه الكبير.. وهو يسمّي هذا الحنان والحب لعائلته ولأهله بواديه الحبل الدموي اللحمي الدقيق يربط بين الكل وثيقاً كلّما أكثروا التحلق حوله.. لتشيع بينهم يومياً وفي كل ساعة ودقيقة من تلك الاجتماعات الألفة والمحبة.. تخلقها وتؤرثها الرؤية والاختلاط.. والاجتماع.. والمشاركة المستمرة في الأحاديث الخاصة والعامة كل ليلة.. وفي كل يوم.. وبإيجاز.. فإن من رأي الشيخ أن دوام الاجتماع بالأهل، وبأفراد العائلة، من الأولاد والأحفاد سبب وقوة لدوام المحبة كما هو وسيلة ورسوخ لأواصرها بما تشتمل عليه من ألفة وامتزاج وتطويق مستمر بالذكريات الصغيرة، والكبيرة المتصلة الحلقات ـ وعلى العكس ـ فالبعيد عن العين بعيد عن القلب..
وفي ضحى يوم.. من أيام الوادي الأخضر الجميل.. أصرّ علينا الشيخ عودة، بعد أن حضر من بستانه إلى مكان نزولنا ـ الوالد وأنا ـ ليرينا.. منحلته.. فهو حفى بها؛ وهي ذات نتاج وفير من عسل أبيض بشمعه.. وأنه لعسل مشهور في واديه وفي كل الأودية القريبة والبعيدة ولدى تجار مكة والطائف، حيث كان عسل النحل الشمعي الأبيض مطلب الطاعمين الذواقين في كل المدن.. عادة درج عليها الناس في وجبة الفطور.. أصلاً.. ومع بعض وجبات الغذاء.. كالندى.. والسلات.. وهو ـ العسل ـ مصدر رزق كذلك لتاجره.. كما أنه مبعث قوة.. وسلامة بدن لمتعاطيه مواظباً عليه تالياً أبداً ما ورد عنه بالقرآن الكريم فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ.
ولقد أجبنا دعوة الشيخ عودة، فذهبنا معه بعد تناوله القهوة لدينا حتى إذا وصلنا بستانه الجميل.. بما حوى من شجر وثمر وركبان زمردية وقدّمت لنا القهوة عربية ذات نكهة وطعم فريد قادنا إلى المنحلة التي غصت بأسراب النحل.. ورتبت ترتيباً بدائي الصنع إلاّ أنه كان واف بالموضوع.. وتناول الشيخ كل شيء بالشرح من النحلة العادية إلى اليعسوب. كأنما هي أفراد أمة هادئة مطمئنة قانعة يسعى أفرادها مؤتمرين بأمر قائدها كل في عمله المفصل من قبل الشيخ عوده.. حتى الزهرات وأنواعها وصف صلتها بالنحل امتصاصاً ورشفاً كطعام سائغ لأسرابه.. ثم عقب على بيتها مقاماً ومثوى إنتاج وفير.. وأسهب شارحاً كل ذلك في بيان وذلاقة الخبير الدارس فطرة وممارسة لما كان بشأنه وشأن التعريف عنه.
وأخيراً تكرّم علينا.. فأهدانا قطعات شمعية من منحله وقد استقر العسل داخلها في بيوته الهندسية تتجاور في صنع وتركيب تعجز الأيدي الماهرة في عمل الدانتلا عن محاكاته لإبرازها تحفاً ممتازة.. فسبَّحنا وكبرَّنا بجلال الخالق الأعظم يهب مخلوقاته من بشر وحيوانات وطيور وهوام وحشرات وجماد بعض أسرار صنعه وخلقه.. دروباً قصيرة إلى معرفته.. بآياته.. جلّ وعلا.. في ملكوته الأسمى.
وما أن انتهينا من زيارة المنحلة حتى غام الوادي.. ثم انسكب الغيث في خيوط من ماء.. وحبات من برد شاهدناهما من كوة من دار الشيخ.. صورة من فرح الطبيعة ومن مهرجانها الحافل الراقص بأشجاره.. والضاحك بأوراده وبأزهاره.. وكأنما جاء المطر تزكية لدعوة الشيخ عوده الذي بلغ به السرور مداه فأقسم وأصرّ أن يكون غذاؤنا في بيته.. وتحت عريش العنب بعد أن يصبح دفق السماء رذاذاً منثوراً وقد كان له.. ولنا.. ذلك.. فالمطر في البساتين عيد ـ وأي عيد.
ولن أنسى ذلك المنظر الخلاّب في يومنا الساحر.. وقد دبّت حلاوته في نفسي واستقرّت في جذورها حتى جاء يوم جديد من أيام مستقبلي المجهول فإذا المناسبة العابرة فيه تبعث في خاطري تلك الصورة القديمة المختزنة فيه جديدة مكرّرة في قطعة شعرية من موضوع قصيدة ذات كيان مستقل بها حيث أقول:
واستبان الغمام واستطبنا المقام
تحت سقف العريش
ترمق الماء.. والنسيم
في الجنان..
عانقا الخلد ـ مستديم
يلعبان..
في اصطفاق وفي خفر!
والنغارى.. تجوب
والقمارى.. تلوب
بين خفق.. يذوب
في ثغاء القطيع
ما انقضى.. ماونى.. ما فتر!
والحدادي.. تدور
والقطا والصقور
حول باب.. وسور
واستكن الجميع
خلف غصن.. ورا حجر!
وهكذا ـ فكأنما كان ذلك اليوم الشعري في بهجته.. وأنسه.. ومرائيه.. حفلة وداع طبيعية لإقامتنا التي طالت.. وإن مرّت بنا من الطيوف.. بوادي الأعمق.. وادي الجمال.. والخضرة.. والحب.. في نفس شاب عانقه طويلاً وتنسم شذاه ملياً.. فامتزج به كل ما فيه.. هوى.. وذكريات.. وامتداد خيال.. وحياة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :697  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 23 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج