شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(17)
الرقصة خليطي والعشوة سليق
ونعود لما كنا في سبيله.. ففي ليلة الجمعة ـ كان موعد الحفلة الجماعية التي انتظرها الكل والتي تقام عقب كل موسم حج ـ في الوادي ـ عُقب أوبة شبابه من مكة، منى، وعرفات، وبعد قيامهم بأعمالهم الموسمية، وأبرزها.. يا رويكب.. يتكسبون بها ومنها ما يكفي لشراء الكسوة، والحلى الرخيصة الأثمان، والفريحة لأهاليهم..
وفي الميعاد ـ بعد صلاة العشاء ـ جئت إلى مقرها مع الوالد ـ كضيفي شرف ـ حيث رحب بنا الحاضرون ترحيباً حاراً.. صادق الفرحة في تعابيره.. وفي إحلالنا مكان الصدارة من المجلس الطويل الحاشد.. وكانت ليلة عمر حلو زاخر بالمعاني.. وبالذكريات لا تمحوها.. ولم تمحها الليالي الكثيرة التالية في الحياة المقبلة.. رغم تميّز تلك الليلة الأعمقية بالبساطة والفطرية ـ وحفول ما تلاها بالبدائع، وبالروائح تجلوها القدرة المالية.. ويطرّزها الفن المدرسي، وتضفي عليها الحضارة طابعاً.. كلحن مميز.. ممتاز!
وابتدأ السمر بالقهوة ـ وبالشاي ـ يدوران بنظام، وبحساب، وبطابع خاص.. تتلوها الفريحة من حمص، ولوز، وفشار، وحلوى، في أطباق ـ تباسي ـ تتناولها الجماعات في أناة وصبر تتخلَّلهما من الأحاديث.. حكايات، وقصص، وروايات.. حتى ابتدأ الهزج.. والضرب على الدفوف، فالرقص التقليدي تتراوح رقصاته الحلوة البديعة بين الحماس.. والدلال.. والانسجام، والاندماج، وكان أبرز ما لفت نظري، وملأ مجامع قلبي، حتى ثبتت ذكراه بذاكرتي حتى الآن من صور رقصات تلك الليلة رقصة (الخليطي).. وابتدأت هكذا:
اصطفت جماعة من شباب الوادي صفاً طويلاً على جانب من جوانب المجلس بالقاعة الطويلة الفسيحة.. كما اصطفت قبالهم جماعة من الفتيات الملثمات ـ اللثام أشد إغراء من السفور. وقد قام منفرداً على رأس طابور الشبان فتى بارز الوسامة؛ حلو القسمات واللفتات، كما قامت منفردة على صف العذارى فتاة لاح مما لاح فوق لثامها ما يؤكد حسنها.. وجمالها الفائق وعودها اللدن الممشوق.
وافتتحت الجماعة الرقصة الأهازيج.. ثم تلاها الشاب المنفرد بارتجال بعض الأبيات من الشعر الحميني الرقيق.. تجيبه على كل قطعة منه بنفس البحر والروي الفتاة المنفردة في ذات الموضوع.. وتتلوها الجماعة بترديد المقاطع.. يكررها الصفان من الشباب والشابات.. كلازمة مطردة.. في توافق.. وفي تناسق جماعي مضبوط.. أخاذ حتى إذا جاء دور الرقص طبيعياً بعد أن رجفت القلوب وحميت الدماء.. ودبدبت الأقدام فوق الأرض منسجمة مع دقات الدفوف.. ونقراتها المميزة.. تداخل الصفان.. دون التحام.. في إقبال وإدبار، حيث تنسل كل فتاة من الفرجة المقدرة لها بميزان وبحساب بين كل شابين.. وهكذا الحال بالنسبة لكل شاب بين كل فتاتين.. في صف الفتيات..
وكانت رقصة الخليطي الجميلة.. لا تستطيع الألفاظ الواصفة المصورة حلاوتها، لا تتم إلاّ برؤيتها والتمتّع بها مشهداً وحساً.. ووجوداً.. خاتمة الرقصات.. دارت علينا في أعقابها من جديد أكواب القهوة والشاي.. دون تباسي الفريحة لقرب ميعاد العشاء..
وجاء بعد فترة حلوة تخللها التعقيب والتعليق على ما كان.. دور الطعام.. وكانت الأكلة عربية شهية.. هي (العربي.. المعروف أيضاً باسم السليق) ولوديان الطائف وضواحيه شهرة ذائعة الأصل في جودته وإتقانه.. كما كان له بها كلها تقليده المتبع المنطوي على كثير من المضامين والمعاني.. فعندما يمد السماط.. وتوضع تباسي الرز في نظام ومقاس محسوبين بالنظر إلى المائدة وتقسيماتها يبدأ المضيف بعد ذلك مناسبة الدعوة عملية تقسيم اللحم على الآكلين حتى يكون لكلِّ شخصٍ قسمه المحدد منه ويصطفى الضيوف الأوائل بالطيبات منه.. وتلك طريقة عربية الأرومة فيما قبل غربية المحاكاة الأسلوبية فيما بعد في المطعم الأوروبي الحديث، حيث لكل فرد طبقه الخاص ونصيبه المعلوم من طلبه..
ولعلَّ ميزة الطريقة على أساس استقلال كل طاعم بنصيبه.. إنها تحث حثاً عملياً على آداب الأكل.. فلا ينظر من كانت عادته في تناول وجبته التأنّي وإجادة المضغ باطمئنانه على نصيبه إلى لقمات أو لقيمات سواه التي يسبقه في تناولها خطفاً متواصلاً.. كما أنه لا يخشى حومة ذلك السباق القتال عندما تجمعه الصدفة وسوء حظه في صدور هذا النظام بأبطال السباق اليدوي والبلعي السريع الازدراد المتواصل! فيضيع ضياع الأيتام في مائدة اللئام..
وبدون إسهاب.. أو تعرض للتفاصيل التالية.. فقد انتهت تلك الليلة الساحرة لتكون في صورتها الدائمة بنفسي وبخاطري محسوبة علينا من ليالي العمر ـ فعلاً ـ دون خطأ في حسابها كذلك، أو تساهل في عدد أرقام أيامنا فيه ـ كما أنها ليست جبر كسر لما فاتنا ويفوتنا في حياتنا.. لغة في القناعة.. وأسلوباً في العزاء المعتاد..
ومجرّد ورود كلمة القناعة بارزة المضمون في سطرها السالف يستدعيني تحديد مركزي منها منذ صباي فأنا.. من يومي.. في الميدان الفني.. ومجالاته شره إلى حدٍّ كبير.. مسرف في استيعاب قسمي فرصة يهتز لها وجداني.. وتضطرب مصطرعة فيها روحي مع دوافعها ودواعيها.. فإذا أعجبني شعر شاعر حفظت ديوانه من الجلدة للجلدة كما كنا نقول.. وإذا استهدفت مطلباً لا أتوانى دونه كأني أحد أفراد معركة السلاسل أمامه.. وإذا استعذبت مجلس حديث فن ـ أو بحث ـ أو طرب كنت آخر المشبشرين له.. وفيه.. ولقد كانت لي في صدر شبابي وشباب الأخ الأستاذ حمزة شحاته ليالي نبتدئها من نهارها بملاحاة سقراطية أو أفلاطونية.. أو سفسطائية؛ وهو من أقدر الناس على خلقها والإدمان عليها ـ فلا تنتهي إلاّ في مشارف الفجر.. وضواحي النهار التالي، كما أننا حينما كنا نتقابل أمام صديقنا المرحوم الأفندي أبدو! ـ على رقعة الشطرنج لا نفارقها إلا بتهديد من ربة البيت.. بالاستنجاد بمركز الشرطة القريب من الدار.. ليذهب أحدنا مكرها إلى داره.. وهكذا.. كذلك ـ فيما عدا ذلك ـ ومعذرة لتكرر هذه الذالات المؤكِّدة شره الطبع الفني ـ في طبيعتي من صباي.. حتى بالنسبة لاستعمال أسماء الإشارة..
وللتاريخ الأدبي.. فقد بلغ بي الأمر في مستقبل أيامي أن سجلت رأيي.. كمظهر للحرد المتواصل من الجملة المتواصلة السرد على الأفواه ـ القناعة كنزٌ لا يفنى ـ في كتابي ـ المطبوع ـ كما رأيتها ـ وديواني قالوا وقلت المخطوط منذ ربع قرن غير مكسور.. في هذه الرباعية الشعرية الناصعة البياض:
قالوا: القناعة كنز
قد طاب في النفس.. غرسا
أغلى الحياة ـ وأزجى
بها السعادة.. همسا
فقلت: هذا عزاء
يدسه الضعف.. دسا
ما كل من كان يرضى
بأن يكون.. الأخسا!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :697  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 21 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .