شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(16)
آباء وأبناء
إن مزنة نادرة حقاً.. لا يمكنك أن تصفها بما تصف به الآدميات من حيث السن والوصف والمقاسات والطول والعرض المتبعة والمرعية كأساسات أولية حتى في مسابقات الجمال..
إنها تبهرك جملة.. وفي الجملة تفصيلاتها تأخذ ببصرك فتستديمه لديها.. فيديم النظر دون المام تعريفي محدد.. ما أن وصلت المربعة ـ أي الدار ـ حتى كنت أردد دون وعي مني مع ابن الرومي بعض أبياته في وحيد.. وحيد المغنية:
يا خليليّ تيمتني وحيد
ففؤادي بها معنّى عميد
طفلة زانها من الغض قد
ومن الظبي مقلتان وجيد
ليت شعري إذا أدام إليها
كرة الطرف مبدء ومعيد
أهي شيء لا تسأم العين منها
أم لها كل ساعة تجديد
وجهول بحسنها قال صفها
قلت أمران هين وشديد
يسهل القول أنها أحسن
الأشياء طرا.. ويصعب التحديد
* * *
لقد عرفت أن مزنة تعيش مع أمها وجدتها لأبيها ومع أخيها الصغير مرزوق.. وأن مورد حياة هذه العائلة بجانب ثمرة البستان الصغير البعيد عن مسكنها بالوادي.. إيجار المنزل الذي خلفه جد مزنة في مدينة الطائف قريباً من قهوة القزاز المشهورة وبيت آخر موقوف على العائلة في المعلاة.. في مكة.. وكان جدها أحد كبار الأشراف في أيامه.. وأنها تقرأ وتكتب.. وهذا الوصف بالنسبة لي كان أهم الأوصاف.. إذ اعتبرته نوعاً وثيقاً من صلة القرابة الفكرية بيني وبينها فيما قدرت.. وأنها تحاول مع قيامها بتعليم أخيها وبعض الصبية من جيرانها ببث نوع جديد على القرية من التطلّع لما وراء حدود الوادي بين أترابها بما تشيع في جلساتها الخاصة الرائفة من أفكار وأحلام.. وكانت لها رغم هذا حكاية غرام.. قصتها عليَّ سليمة غير مشوهة، ذات يوم بعد أن ربطت بيننا مناسبة عابرة.. جاءت صدفة من الصدف الحلوة مما أكد لي من وقت مبكر.. ميزة الصدف في حياة بني الإنسان بل والأسرة الحيوانية بكاملها؛ حتى علمت بالقراءة والسماع فيما بعد أن معظم حوادث اكتشاف الجرائم والسرقات ـ مثلاً ـ إنما يتم بصدفة معيّنة في أغلب الحالات.
فبخروجي في اليوم الثاني من الدار الجدابية بعد صلاة الفجر.. صادف أن رأيت على خلاف عادتي أن أجعل نزولي إلى البساتين فالبئر ظهر الدار التي تنزلها بدلاً من دربها المطروق أمام واجهتها حيث يقع الباب فالحوش الكبير. ولم أكد أصل إلى ظهر البيت حتى تبينت لي خلفه مربعة صغيرة حلوة ورشيقة.. حلاوة ورشاقة ساكنتها ـ مزنة ـ مزنة التي كانت ذلك الوقت نفسه تتخذ طريقها المغاير لجادتي اليومية إلى بستانها. ولا أدري كيف نطقت بتحية الصباح التي أجابتني عليها برقة وباعتداد وفصاحة والتي ربطت بيننا الحديث والتعارف فالاصطحاب ـ ذلك اليوم.. والأيام التالية شخصياً.. وفيما تلاها من أيام.. فكرياً.. ودون انقطاع عن التفكير فيها.. تقريباً.. وبما أن لمزنة معي قصة أخرى غير قصة الجبل الذي صار سهلاً.. كما أنني لا زلت احترم غرامي الأول رغم احتفاظي به في قلبي، وفي كراسة صغيرة ذات غلاف وردي جمل.. فإنني أحتفظ به ذكرى خاصة.. غير مبعثرة الأسرار ترد عرضاً في سرد حكاية غير حكايته مستقلاً بها بالذات. واستمراراً للسير في خطنا الأصلي العريض.. فقد فرحت جداً حين قرر الوالد ـ ثاني يوم ـ لوصولنا أن تمتد إقامتنا بالوادي بعد أصر على ترتيب قيامنا بجلب كذا.. وكذا من الميرة من الطائف ـ وشراء ـ كذا وكذا من الوادي نفسه ـ وكذا ـ من الطائف هما الأرز والعدس.. والسكر.. والبن.. والتوابع.. كذا من الوادي مع خراف متوسطة العمر.. والحجم.. وتيس.. صغير السن.. ووافق الجدابيان وأهلهما على ذلك.. وعلى استقلالنا في مربعة صغيرة متصلة منفصلة بدارهما وبحوشه الكبير.. وكان هناك شرط واحد هو حضورنا الحفلة الليلية التي ستقام ليلة الجمعة بالوادي فرحة بالعائدين باعتبارنا ضيفي الشرف فيها.. فكان لهما ذلك. وقبل أن نحضرها لا مناص من القيام بقفزة باراشوتية سريعة ترتبط دواعي سردها بالسر في قرار الوالد مدة إقامتنا بالوادي.. وتتلخّص تلك الدواعي حسب أهمية حيثياتها في الآتي:
أ ـ شعوره بالاستفادة الصحية من البقاء هناك.. لكلينا..
ب ـ ترحيبي الحار بتخصيص وقت طويل نوعاً ما لتسميع القرآن له فهو أحد الحفظة المجيدين والذين لا ينفكون لترسيخ الحفظ يعيدون تلاوته يومياً.
جـ ـ مع استعدادي لإعادة الحفظ.. من جديد.. بحفظه عليه.. بواسطة تلاوة ما تيسر منه.
د ـ إحساسه برغبتي في البقاء بالوادي أطول وقتٍ ممكن.
هـ ـ صلة الأبوة والبنوة القوية والمجرّدة من أي غرض مادي بالنسبة لأجيالنا السابقة.
وأتعشم ألا يعتبر ما ورد في البند الخامس من هذه الحيثيات تعريضاً بالجيل الصاعد اليوم وتجريحاً لمركز قداسة الأبوة في نفوس أبنائه كما تفهمها أجيال الأمس.. وإن أكد الواقع في قسوة أن ارتباط الأبناء بآبائهم اليوم إنما يرتبط بحكم مادية العصر بسلسلة مادية بحتة.. وإن كنا نحافظ على تغليفها بورق من السلوفان الناصع وربطة حريرية ناعمة خشية اهتزاز رابطة الأبوة والبنوة.. فأصبحت الصلة.. فالحب بمقدار ما يعطي الوالد للولد.. سيارة.. أو بدلات جديدة.. أو رواتب مُدرِّسين خصوصين ومصاريف جيب شهرية ـ أو.. أو ـ إلى آخر القائمة الطويلة البنود والباهظة التكاليف..
وأعتقد من جديد.. أن بدعة تغرب الأولاد خارج الديار.. لطلب العلم العصري.. قد خفف من أواصر الحب.. العذري..! لأن البعيد عن العين.. بعيد عن القلب كما يقول مثلنا الشعبي العتيد.. وأن الأب الآن قد أضحى بالنسبة لولده وفي نظره.. أمين صندوق العائلة.. ونكتفي بهذه الهمهمة.. في سطورها الرمزية القصيرة.. للإشارة إلى علاقة الأب المادية بأبنائه من أبناء الأجيال الصاعدة اليوم للتفرقة بين من كانوا يشاركون آباءهم المسؤولية من سن مبكر.. ومن أصبحوا يعتمدون عليهم حتى بعد أن تطر شواربهم.. ويغطّي الشعر عوارضهم.. مع استمرارهم على النداء التقليدي الحديث والمحبب في أسماع والديهم بالكلمة السحرية "بابا!" يرخون بها الأعصاب.. ويدغدغون بحلاوتها الإحساس.. فإذا كل شيء في سبيلهم من والديهم لهم يخف.. ويهون..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :659  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 20 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.