(11) |
يا زارع الريحان |
وهكذا.. في وسط كرا وأمام طائفة من القردة سكانه الأصليين تذكرت حكاية عمّتي عنها وعيني مع اتجاهات نظرات الحمّار الصغير الجدابي.. ويدي في يده عربون إخاء.. وإعجاب وتسليم بالرفقة الطيبة.. حتى رأس الجبل. |
وفي الواقع.. فلم يكن ما رأيناه من تفجر الماء من بين الصخور ومن منظر القرود واستعادة بعض نوادرهم.. كل ما رأيناه بهذا الجبل الذي صار سهلاً.. فقد رأينا وبالواسطة وبأنفسنا كثيراً من أنواع الأعشاب البرية الجبلية.. وتم الشرح من مصادره في دقة تكاد تكون علمية.. وفي إسهاب بالغ.. لكثير من الخصائص النادرة لهذه الأعشاب في علاج كثير من أنواع الأمراض.. حتى لقد جال بذهني الصغير بحرارة الموقف أن قررت التخصص في فرع من فروع الطب الطبيعي ـ الهمبوتيكي ـ في مستقبل أيامي العملية وبفتح عيادة خاصة في جدة.. وبعد عودتنا إليها من رحلتنا الكريمة بالطائف.. وأنا أجمع في العودة ما تيسر من هذه الأعشاب وأن أتفق مع الجدابيين ليكونا وكيلين لي في تصديرها. |
وكان المشروع رغم صبيانيته ـ هاماً في حينه.. فلقد كاد هذا العلاج أن يكون هو العلاج الوحيد في بلادنا.. رغم وجود بعض الأطباء العصريين من أبناء العروبة خدّامي القضية.. الذين لم تكن تجاربهم فينا مشجعة على الإقبال عليهم.. والذين أساءوا حينذاك إلى سمعة الطب وإلى عدم جدوى الأدوية المحضّرة صناعياً، وكان أن استمسك الأهالي جميعهم في المدن بالتجربة وفي الريف وبالوراثة بالعلاج الهمبوتيكي بالأعشاب.. تقوم عليها الوصفات.. والمعالجة الطبية تمارسها جداتنا وأمهاتنا.. مقتديات بالسلف من الأجداد والآباء.. وعلى سبيل المثال العملي في هذا الباب.. ومع التجاوز عن عدم التوفيق في اختيار المثل ذوقياً فإن من أحس بحبسة أو كتم لأنفاسه التحتية ـ أن يأخذ فنجاناً من النعناع المغلي.. فإن له مفعولاً مطلقاً.. في تصريف تلك الأنفاس الخبيثة الكريهة الواجب تصريفها أولاً بأول خشية القضاء على حياة حابسها بدافع الحياء التقليدي أو الوقار المصطنع.. |
فإن حدثت مضاعفات لا سمح الله نتيجة هذا الحبس بالذات.. أو لأسباب خارجية عن نطاق العوامل السامية فيه مما يؤدّي إلى قبض خطير.. فإن كذلك في السنامكي العلاج المضمون القاطع إن شاء الله. |
ومن المعلوم المزروع.. كما لا أحتاج أن أقول: أن النعناع من غراس بلادنا.. فهو دواء في متناول اليد وميسور.. ومؤتمن باعتباره ابن تربتنا نفسها.. فضلاً عن أن له غير هذا الجانب العلاجي جانباً اقتصادياً كذلك ـ فبراد النعناع ينوب عن براد الشاي المستورد صرفاً أو ممزوجاً به.. في بعض الحالات. |
كما أن السنامكي كما تدل نسبته عليه عشب وطني صميم.. ثم أنه قد بقيت له حتى هذه اللحظة وستبقى له شهرته العالمية الذائعة الصيت ومسماه الأصلي القديم.. رغم كتابة حروفه باللاتينية.. ورغم زوال معالمه العشبية بتحضيره عقاراً مركباً تركيباً مزجياً عصرياً مع سواه من العقاقير نتناوله أقراصاً داخل زجاجات صغيرة أنيقة جرى تعقيمها ولفها بالقطن داخلياً وبالغطاء المحكم على فوهة الزجاجة نفسها كما هو الحال مع النعناع وسواه من الأعشاب المحولة إلى عقاقير طبية. |
هذا.. وما دامت قد جاءت هذه المناسبة بطبيعتها.. وبطبيعة ذكر السنامكي والنعناع فإن من الثابت أن معظم التركيبات الدوائية الحديثة والتي أصبحنا لا نثق بسواها يدخل فيها كثير من مزروعاتنا ولا نستطيع هنا أن نفرط في واجب التنويه بآثار مفعولها ـ سواء كان مفعولاً مطلقاً ـ أو مفعولاً به ـ أو مفعولاً لأجله.. ومن بقية المفاعيل الأخرى.. مثل الحبق.. والعطرة والحناء سواء استعملت هذه الأعشاب الأهلية لعلاج الأمراض الداخلية أو الجلدية الظاهرة. |
ولقد اقتصرنا هنا. ونحن على استحياء تام من الإطالة والاستطراد وقطع مجرى الرحلة على الأعشاب والمزروعات ذات الأسماء الرنانة على أن هناك أعشاباً يحمل كل منها شارة الجندي المجهول.. في مدار التطبيب والعلاج.. |
كذلك فإننا لم نتعرض لذوات الصرف والرائحة الطيبة من مزروعاتنا كالريحان والفاغية.. وسواهما مما تُرد أرومته إلى الزهور والورد؛ مع أن هذه المزروعات تخطت في رشاقة وجدارة.. ميدان العلاج الجسدي والحسي.. إلى معاني الأرواح والقلوب.. فأصبحت للحب بشائر.. وعلى الهوى علامات.. وللصبابات معاني منثورة.. أو مشعورة.. فنحن لا زلنا نردد في دنيا القلوب ما كنا نردده من عشرات السنين مثل: |
- يا زارع الريحان حول ديارنا.. |
- يا فاغيا.. في العمائم.. |
إلى آخر منظوماتنا وأغانينا المرتبطة بالفعل بالريحان، وبالفاغية وبالعطرة وسواها.. وإنني لأتعشم صادقاً.. أن يتجه فنانونا من شعراء.. وملحنين ومطربين، بل وأطباء إلى نصب جسور جديدة يربطون بها قديمنا بجديدهم.. ويطلون من فوقها على ما تحفل به تربتنا من هذه النباتات الطبية في مجلاها الإنساني الحافل بالشعر وفي صعيدها الزاكي بالحب.. وفي مدارها الجسدي.. والروحي.. الزاخر بالمفيد.. وباللطيف.. |
وهذه اللفتة حسنة من حسنات هذا الجبل الذي صار سهلاً.. وكم له ـ كما مرَّ ـ وكما سيأتي.. من حسنات.. فلا زلنا في السبيل إليه. |
|