(10) |
حكاية عمّتي |
فقد حدث ذات ليلة في بيتنا بجدة.. وعلى ضوء خافت من الفانوس الصغير أن اتكأت عمّتي في فراشها وأنا انسدحت بجوارها مبحلقاً فيها وكلّي أذن صاغية لما ترويه من حكايات مسلية طريفة لمن كان في مثل سنّي.. |
وهنا لا بد قبل الحكاية من وقفة قصيرة جداً فيما أخمن أن تكون ـ فقد كانت العادة في بيوتنا أن تتعهد إحدى سيدات العائلة الكبيرات في السن في حواديت روايات قصيرة مثيرة مغرية توسع في الأطفال دائرة الخيال وتربى ملكاته فيهم.. |
وهن غالباً ما يعمدن زيادة في التشويق، إلى جعل الجان والمردة والغيلان عناصر رئيسية ثابتة في أقاصيصهم فتجد الأطفال مسمّرين حولها وكأنهم تماثيل جامدة أو دُمى مبحلقة أعيانها.. متسلّطة على فم الروائية الشعبية.. |
بل أنني أذكر حينما كانت تقتضي بعض المناسبات أن يبيت قسم من عائلتنا لدى بعض أقاربنا تحرص العائلة المضيفة لنا أن تتولى السيدة الكبيرة بها مهمة السيدة الكبيرة في بيتنا وإن كانت لا تصل سيدة البيت المضيف غالباً في المكانة لما تصل إليه عمتنا أو خالتنا وتلك إحدى خبايات الألفة للصوت الواحد المعتاد وللطريقة الرتيبة مهما كانت ميزاتها.. |
وأخال أن تلك العادة المنقرضة من بيوتنا، عادة قيام الست الكبيرة بسرد الحكايات للأطفال، راجعة في الدرجة الأولى إلى الشيطنة كما كانوا يسمونها احتراماً لرب البيت وتوفيراً لراحته وهدوئه وهي ولا شك خطوة ماكرة لجذبه وقضاء وقته بدلاً من قضائه إياه بالمقهى أو خارجه.. أياً كان.. |
ومن هنا فإنني أخال كذلك أن المفكر في اختراع الراديو أولاً ثم التلفزيون أخيراً إنما كان أصلاً من شعب كشعبنا كانت السيدات الكبيرات فيه تقوم بالحكايات لإشغال الأطفال وهذا ليس مهماً بقدر الأهمية في إغراء واجتذاب الزوج رب البيت لقضاء السهرة في بيته، ثم إن مزايا عادة الحكايات البيتية للصغار كانت لمن يسمح سنهم بالفهم فهي تقوم مقام التهنين للأطفال الرضع جلباً للنوم. وللتهنين كلام آخر. |
وعوداً على بدء فقد حدث ذات ليلة وعلى نور الفانوس الخافت الضوء أن كانت حكاية عمّتي تلك الليلة خاصة بالقردة، بل بقرود جبل كرا بالذات. |
والحكاية بالصراحة مشهورة ومتداولة بين أبناء جيلنا ومن قد يليهم ومجملها في غير داع للمضايقة بتفصيلاتها الجزئية الدقيقة كالآتي: |
الزمان ـ على طريقة المسرحيات العالمية.. أيام الأتراك في الحجاز. |
المكان ـ منتصف جبل كرا تقريباً وفي أحد الأماكن المنبسطة نوعاً ما.. |
جوها ـ غائم كثير السحب الداكنة المتلبّدة في كبد السماء.. |
أشخاصها ـ تاجر طرابيش تركي ودليل بدوي من ثقيف وجماعات من القردة.. |
موجوداتها ـ وهذا من تجديداتنا.. بعض البغال.. وبضاعة عبارة عن صناديق ملأى بالطرابيش.. للبيع.. |
ويقول المجمل: أنه بينما كانت القافلة تسير بالطرابيشي التاجر ورفيقه وبضاعته فوق البغال، حدث حدثاً طبيعياً بحكم الغيوم.. أن أفرغت بعض السحب الكثيفة بضاعتها مطراً غزيراً تسرّب جزء كبير من مائه إلى الصناديق ومنها بالطبع إلى الطرابيش داخلها فأصابها ببلل ثقيل وكانت القافلة قد توقّفت عن السير أثناء هطول المطر.. وحين أن كفّت الأمطار تماماً عن الانهمار زالت السحب بطلوع الشمس وصحو الجو. قام التاجر إلى الصناديق ففتحها وأخرج ما بها من طرابيش ثم تولى نشرها على الحجارة.. وفوق الصخر حتى تجف تحت الشمس، وتحت أنظاره المسلّطة عليها.. |
ولما كان هذا التاجر قد أنزل طربوشه الذي لا يفارق رأسه إلاّ مضطراً، وقيل أنه كان ينام به على طريقة صديقنا المرحوم الأفندي في احتفاظه بالشطافة والغترة على رأسه في السمرة وفي بيته بل وعلى سرير النوم.. دليل ألفة وشعار إخلاص للعادة وولاءلها. |
ولما كان هذا التاجر قد أنزل طربوشه عن رأسه مع بوادر الرذاذ الأول مضطراً لعدم إعطاء المطر فرصة لبلله فقد احتفظ الطربوش ـ لا رأسه ـ بجفافه وبحالته الطبيعية ـ ولهذا وللنزول على حكم العادة ـ فقد سارع إلى ارتدائه فوراً وبمجرّد كف المطر عن النزول وجلس مختالاً به يراقب طرابيشه المبلولة والمنتشرة على الصخور والأحجار.. وللشهرة العالمية عن القردة في حبها البالغ حد الصبابة والهيام بالتقليد والمحاكاة.. ولاستظرافها لأسباب خاصة بها هذا القالب الأحمر يقي الرأس أو وسطه على الأصح بعض حرارة الشمس.. ويزينها زينة الطاووس بهذا الذيل الأسود الذي كان يسمّى زر الطربوش والمدلى من الوسط حتى أطراف القذال ـ بالفصحى ـ أو حبال الرقبة ـ العامية فقد رأت القردة أن تجرب استعمال هذه الزينة مقلّدة صاحب الطربوش ومحاكية هذا البني آدم.. في تيهه بهذا القالب الأحمر ذي الزر الأسود الطويل ـ غطاء للرأس.. وبزة آدمية جديدة.. لم تألفها على رؤوس الأشهاد من أبناء الجبل سكان الوديان.. وفي قمته وبالسفح منه. |
وفي مهارة القردة وخفتها.. أخذ جماعاتها تتسلل لواذاً في رشاقة مشهورة لها وفي خبث بارع في التضليل.. حيث استولت في الأخير على الطرابيش.. ووضعتها فوق رؤوسها.. صاعدة بها بعض جوانب الجبل العسير صعودها على سواها.. |
واصطفت في طوابير منتظمة.. ضاحكة.. لاعبة.. هانئة بهذا الزي البني آدمي الظريف. |
وبالطبع فقد جنّ جنون تاجر الطرابيش لضياع البضاعة التي كان يبني القصور العالية في خياله على بيعها.. وإحصاء الربح المقدَّر منها.. ولم يجد بداً.. في الأخير.. من أن يطأطئ من طربوشه.. ويتنازل عن كبريائه ليعلن إلى دليله الثقفي أنه لاجئ إلى حماه ـ وإلى مروءته العربية ـ ونخوته ـ وأنه يرجوه أن يساعده في استعادة طرابيشه من هؤلاء القردة أبناء الجبل الملاعين. |
وبتقدير البدوي لربح التاجر تقديراً مبالغاً فيه بعض الشيء.. فقد فضّل أن يساومه مبدئياً لأخذ حصّته نسبة مئوية معقولة في ذلك الربح المقدّر والمنتظر.. |
وتقول الرواية أن البدوي تساهل بعد مساومة مضنية.. فقبل أن يأخذ بعد استرجاع البضاعة عشرة في المائة وحسب القاعدة الشائعة في أيام الطرابيش والقائلة في دوام وحرارة أفد.. واستفد.. فقد قبل الطرابيشي هذه النسبة. |
ودليلاً على صدقه وحسن نواياه.. فقد سلم الدليل حسب المتبع 5% مقدماً كعربون ثقة.. وصدق تفاهم.. واتفاق. |
وهنا.. وفور استلام الدليل البدوي الخمسة في المائة.. تفتقت ذهنيته بحرارة ما دخل حسكلة من قروش.. عن حيلة لطيفة من حيل الشطار.. فأشار إلى الطرابيشي بأن يقوم من مكانه تحت أبصار القردة المتفرجين عليه وفوق رؤوسهم الطرابيش.. إلى ركن قرب منخفض ولكنه بارز المنظر وأن يزق فيه.. والزق باللهجة البدوية.. أن يعمل زي الناس باللهجة الحضرية هو التغوط.. بالفصحى.. أي إتيان الغائط الذي هو أصلاً الأرض الواطئه.. فإن لم يكن لديه ذلك المخزون البشري.. فعليه أن يقلد الزاقق في كل حركاته المقررة.. وبانتهاء العملية موضوعاً فعلياً، أو شكلاً مظهرياً.. عليه أن يحمل طربوشه وأن يقوم بحركات التطهير والاستنجاء.. علناً ـ ثم يقذف به بعيداً عن مكان العملة! |
ولم يسع الطرابيشي إلا أن نفذ ما أشار به دليله ـ وكانت النتيجة الحتمية حسب عادة القرود في التقليد وفي المحاكاة إن عملت ما عمله التاجر تماماً وبالضبط فقذفت هي الأخرى بعد إجلاء المتبع من الزاقق.. بجميع الطرابيش.. وحينذاك ـ سارع كل من الطرابيشي والدليل إلى جمعها.. فاسترد التاجر بضاعته.. وقبض الدليل.. عمولته.. وأرضت القرود نزعتها في التقليد والمحاكاة.. طرداً وعكساً في أخذها للطرابيش ثم إعادتها إياها! |
|