(9) |
أحجار وماء وقرود |
أما بعد.. فبإشباع رغبتنا.. يا عباد الله ـ وبتحريك أعضائنا الهامدة.. بممارسة نطة الإنجليز ـ يمسانكا.. وديني وانكا.. في استطرادنا المكرور.. حيث بقينا طيلة هذا الوقت.. قضيناه في سرد بعض ذكريات الحارة.. وفي حكايات فرعية عن الحيوانات المنقرضة وعن سيدها بالنسبة لتاريخنا الجمل ـ أو أبى الصبر ـ فقد آن لنا أن نواصل السير في رحلتنا من الكر.. السفح إلى الكرا ـ الجبل والقمة..! |
ففي صباح اليوم الثاني من مساء يوم الرحلة السابق.. بدأنا من الكر الرحلة الجديدة مع أفراد الركب العائدين لمنازلهم.. من سكان الوديان الواقعة فوق الجبل الأشم، أحدنا ـ وهو الوالد مع الركب على ظهر حماره الذي كان موزون الخطى ـ خبيراً بتجنّب المزالق والمهاوي باعتباره من خبراء الطريق إلى "الديرة" علماً بأن الجدابى الكبير حمَّارنا سائر بجانبه وربما جاءته الخبرة من وجود ابن الديرة الأصيل وراءه.. وإنما نسبت إليه عشما في استدرار أكبر قسط ممكن من جهده.. ونشاطه. |
أما الثاني ـ وهو أنا ـ كفانا الله شرّ كلمة أنا ـ على حدِّ تعبير عمّتي يرحمها الله.. فقد كنت بإعطائي حماري إجازة شخصية سائراً على متن قدمي الحافيتين من أي فعل مجاراة لزميلي الأخ الأصغر للجدابي الحمَّار.. وتشيعاً لمبدأ المساواة والحرية والاخاء الذي كنت حديث العهد بمعرفته.. عن طريق روايات الجيب التي كان يقوم بتعريبها الأستاذ عمر عبد العزيز أمين.. ومعظمها حافل.. بل ومختص بحوادث الثورة الإفرنسية.. وهي روايات كنا نتبادلها بالزنابيل مع أصدقاء القراءة للمبادلة والمشاركة باعتبارها مالئات فراغنا الرهيب ومطالب دمائنا الفائرة آنذاك. ولعلَّ رخص أثمانها أولاً وتوفير بعض الأثمان وبطريق الإعارة.. ثانياً ـ دون الإيجارة ـ فيها دافع الإقبال عليها.. |
وعلى ضوء من هذا المبدأ المثالي آنذاك فقد سرت حافياً مع زميلي.. وإبرازاً للمواهب المدفونة.. واختصاراً للطريق في الجبل وللزمن كذلك.. فقد أخذنا كلانا في تسلّق الصخور أو التسلل من بينها منفردين.. متحاشيين بحكم الغرور الصبياني أن تكون مع بقية الركب نشاهده دوننا.. سائراً على الطريق الممهد بقلب الجبل.. لا تجمعنا به تلك البسطات، أو الأزقة الترابية تقع من قلب الجبل موقع الواحة من الصحراء؛ حيث ينتظم فيها سير الركب دون اهتزاز ـ أو تأرجح قابل للسقوط.. ودون الأوامر متكررة لركابها بالنزول والسير على الأقدام خشية الإنزلاق لمدة تتراوح بين الدقائق وأرباع الساعة.. |
وقد تسنّى لنا أن نرى فيما رأينا بوسط الجبل تقريباً تلك الصخور التي ينبجس منها الماء.. والتي تلونا لديها الآية الكريمة إكباراً لعظمة الخالق الملموسة ولجلال القرآن "وإن من الحجارة لما يشقق فيخرج منه الماء".. وترشفنا فعلاً من زلالها. |
وكنا ظمأ.. مع همنا إطفاء حرارة "المعدوس" التي استمرّت شعلته من عشاء الليلة الماضية والعة في معدتنا.. كما يستمر اللهيب متوهجاً في شعلة قبر الجندي المجهول تحت قوس النصر في باريس.. وتلك مزية للعدس.. بالإضافة إلى مزاياه الأخرى ـ تذكر.. فتشهر كدليل على فيتامينيته الحديدية النارية. |
وفجأة.. أشار زميلي.. فرأيت على مسافة بعيدة بإرشادات المنظار المكبّر وهو عينه الحادة النظرات بعض القردة التي لم أتبينها بوضوح إلا بعد إرشادات متكررة منه بالسبابة المنتصبة والمؤشرة في دوران متصل لبعض الاتجاهات حيث تبينتها.. تماماً متجولة فيها.. وكانت القرود تسير في جماعات متفرقة منتظمة.. منها الكبير الهائل الحجم، ومنها الصغير الضئيل.. والناشئ، والغلام، والفتى من الجنسين بالطبع. |
ولقد أعجبتني خيلاؤها ـ وشعورها بالسيادة في موطنها.. ترمقنا نحن الآدميين في نظرات استنكار.. وكأنما نحن دخلاء على مناطق نفوذها.. حتى لكأنها تقول لنا.. لقد كان لا بد لكم قبل أن تصلوا إلى هنا أن تطلبوا منا الإذن بالمرور في قلب الجبل. |
وبواعز من الخيال الروائي الناشئ عن قراءة روايات الجيب.. فقد أخذت أتصورها أمة قائمة بذاتها في جوانب.. وأطراف، وأعالي هذا الجبل العتيد.. أمة تحكمها عادات وتقاليد.. وعرف متوارث.. تماماً كبعض بني آدم في نشوء تكوينها الحضاري.. ولا أدري كيف قفزت إلى ذاكرتي آنذاك نظرية المستر داروين القائل بالحلقة المفقودة، وأصل الإنسان.. ولكنني سارعت بالاستغفار.. وإزاحة هذه النظرية من ذهني.. في تقزز واستنكار، أو استكبار أن تجمعنا وإياهم أرومة واحدة. |
ولذلك ولإشغال دماغي بالمفيد الجيد.. فقد بدأت الاستعلامات من مصدرها من زميلي الحمار الصغير باعتباره صاحب دراية وعلم بأمورها وكأنني أطلقت بسؤالي إياه عنها.. صنبوراً من الماء الدافق.. فقد شاء له خياله البدوي الواسع المجال أن يسرد على بعضاً من تلك العادات القروية والتقاليد والعرف المتداول في سلاسة وتدفق جعلاني أشك في أن مردد ببغاوي لما يسمعه من كبار ذويه وأهل صنعته. |
ولكن ما أن قصّ على بعض القصص المشهورة لدى أهالي الوديان المجاورة للجبل على قمّته.. حتى بدأت في تصديق رواياته، حين تذكرت حكاية عمّتي عن قرود جبل كرا ونوادرهم فيه.. |
|