(6) |
أكلة معدوس |
وهنا.. أود أن أستأذن القارئ.. للبقاء معنا بالكر حيث كنا في انتظار العشاء، غير متجن عليه، فقد شرطت في بداية هذه الحكاية؛ حكاية الجبل الذي صار سهلاً، أنني سأذعن لمقتضيات الاستطراد ما بين حين وآخر ما قد يجعل الحكاية نفسها عبارة عن عبارات.. أو ذكريات من الاستطرادات الموصولة المتكررة . لا رابطة فيها بين لون ولون، أو نوع ونوع.. ولقد سرد عليَّ الوالد لطرد الكرى الذي يهاجمني في عنف وثقل ولئلا يفوتني العشاء.. بعضاً من ذكريات فتوته بصفته أحد المشاكلة في الحارة.. فقال: إنه نشأ نشأة خشنة لا تمتّ بصلة إلى ما نشأ عليه جيلنا.. حيث كان منقطعاً في أوقات فراغه ـ وما أكثرها ـ إلى تلقى فنون المطارحة، نوع من المصارعة الحديثة، باطاً بباط أو بباطين ـ على أيدي شبان أشد قوة وأعلى مراساً منه ـ ثم إلى التدريب العنيف على القشاع ـ واستعمال العصا ـ أي النبوت ـ في شتى أنواع استعمالاته.. مدنيا للمزمار.. وقشاع للمصاولة.. وكنسا للمضاربة في نطاقه الجدى الحامي والواسع بين أهالي حارة، وحارة. |
وتلك كانت خلة الرجولة لأبناء الشعب من طبقته وما دونها وكانت غالبية أبناء المدن الرئيسية من المملكة اليوم ـ وبالحجاز آنذاك ـ في جدة، ومكة، والمدينة بالذات من هاته الطبقات الممارسة لما مرّ لا يستثنى منها إلا طبقة أبناء الأتراك.. أو المتتركين من أبناء البلد المجاورين، من المهاجرين الراسبين بعد كل موسم حج. |
وكانت المحلات ـ الحوائر ـ مدنا مستقلة داخل كل مدينة فإن لكل حارة حدودها المصطلح عليها بعد الحارات القديمة والتي انتهت بتقرير ضم زقاق جديد. أو برحة إلى المحلة الغالبة، ولا يجوز إطلاقاً لأهل أية محلة أن يتسامحوا في ضياع شبر من حدود محلاتهم. |
ومن هنا نشأت أصول الوطنية الحاروية وجيش دفاع كل محلة من المشاكلة الممتازين.. رجالاً وكهولاً وشباناً، من أبناء العائلات ومن يلحق بهم من المواليد، أو من العبيد في درجة الأبناء في حسن المعاملة وفي المساواة في كثير مما يتمتع به الأبناء أنفسهم.. يتضاربون.. ويتهاوشون مع نظرائهم من أبناء المحلة الأخرى.. كلما اقتضت حالة معيّنة إلى قيام ـ الهوشة ـ كما كانوا يسمونها بسبب حادث تافه أو جلل ـ والتوافه في تاريخ الهوشات وأسبابها هو الغالب الأعم. |
وعلى هذه القواعد وسواها من الفهم، أخذ الوالد يسرد ذكرياته في هذا الباب من المضاربات الفردية بين أولاد المحلة ذاتها.. ومن الهوشات الجماعية بين أبناء محلة وأخرى وباعتباره من فتيان العلوي ـ سوق جدة ـ ومن مشاكلة محلة اليمن فإن حوادث هوشاتهم تتم على نطاق متكرر واسع مع أبناء محلة المضلوم ـ المظلوم ـ وعلى نطاق ضيق غير متواتر مع أبناء حارة البحر التي تعتبر بوم الغارة الكبرى جزءاً أساسياً من محلة اليمن. |
كما كانت الأمور نفسها تسير في الهوشات بين أهالي محلة الشام والمضلوم ـ ولكل من هاته المحلات حلفاء من أهالي محلات النزلة اليمانية ـ والرويسين الأعلى والأدنى وبنى مالك وسواها ـ ومن ذلك نستطيع أن نفهم للتاريخ أن في وسع من شاء من الباحثين على أضواء تكوين المحلات وحروبها الشعبية والحاروية وتفاصيلها الواسعة جداً.. وعلاقاتها المتنوعة أن يدرس الحالات الأممية في حروبها الغابرة عامة ـ وفي الحرب الكونية الأولى والثانية.. كنقاط ابتداء.. تماماً وبالضبط كما سلسل بعض الباحثين تاريخ الحروب ابتداء من غارات العشائر بسبب دلو.. فالقبائل، بسبب فرس أو بعير.. ومن هنا ـ فقد كانت ذكريات الوالد المسرودة عن الحارة وتاريخها ومشاكلتها ومشاكلها، ولم أستوف هنا بعضاً من كل، بل أن ما ذكرت أشبه كثيراً بشعرات من رؤوس أقلام، وفي هذا الباب وفيما ذكر الكفاية ولو مؤقتاً فيما يلوح لي.. وما أحس ذوقياً وجوب الوقوف عنده.. كما أحس الوالد نفسه، عندما عرف بأن العشاء على وشك الانتهاء، من طبخه. |
وبالنسبة لعشائنا هذا في الكر.. أحب أن أقول أنه حين وصولنا هناك نحن وجماعة الحمارة العائدين.. لم يكن أمام جماعتنا الصغيرة الوالد وأنا والجدابين الكبير والصغير ـ أسوة بالبقية وكل منا على حسابه ـ أي مجال لاختيار نوع وجبة العشاء هذه.. فليس أمام كل منا تمشياً مع حيثية المكان ـ الكر ـ والمقهى والمكين ـ ونحن والحمارة وجوهما الشعري الأصيل إلا أن تكون الوجبة أكلة "المعدوس".. بحصاه!. |
ولقد أكلناه كذلك ـ أي بحصاه ـ فعلا متلذذين ـ غير مشاركين للأسف ـ برؤية الأعمال الجليلة الهامة في تحضيره.. من إشعال الحطب.. وتحضير القواعد المثلثة من الأحجار لوضع القدر عليها ـ فالقدر كما يقول المثل ما يقعد إلا على ثلاثة ـ فوضع القدر ـ وفوران الأرز والعدس صديقين متلازمين طيلة العمر.. مركبين تركيباً مزجياً.. ولد لهما هذا الاسم المعجب المطرب.. "المعدوس".. علماً بارزاً في عالم أكلاتنا الشعبية.. وخصوصاً أيام الغيم يتلبد في الجو.. دون نزول المطر.. فهو أي الغيم كالأمل العذب الباسم يلوح في حياة الفرد لاستساغتها على رجاء تحسن أحواله فيها.. أو هو كالعزاء بهذا الاعتبار السالف ذاته. |
وربما جاء حب المعدوس والحنين إليه كلما ذكر لدينا حواضر وبوادي من اختلاسه كثيراً من الملامح والمشابه والمضامين للأمل.. وللعزاء. |
أما في حين نزول المطر فعلاً على ـ ندرة نزوله ـ فالمعدوس غالباً وجبة كل دار ـ أو خدر.. وأذكر ـ بطريقة اللقط السريع ـ أننا عندما كنا موظفين بوزارة المالية بمكة المكرمة بمقرها بالعرضي كما تسميه.. وعندما كانت تغيم ـ أي السماء ـ يبتدئ أوتوماتيكياً طلب كل موظف السماح له بالخروج بانتحال أية علة أو سبب حتى ليبقى القسم عاملاً بموظفين أو ثلاثة على الأكثر ـ ويتضح فيما قبل وفيما بعد أن الجميع قد ذهبوا لتناول المعدوس في "المصافي" الصامح مثلاً وتناول المعدوس في الخلاء مما يعتد به في تاريخ مواطنينا. |
فالمعدوس أكلة خلوية شعرية.. حتى في الليل ـ أمام اللهب الأحمر ـ من الحطب يتخلّل دخانه شعرات أذقان القائمين بعملية طبخه، وعلى ضوء القمر الساري، من جماعة الآكلين.. |
|