(5) |
حج وبيع مسابح |
وهكذا.. وبعد عصر الثالث عشر من شهر ذي الحجة.. ومن قلب منى. بعيداً جداً عن مقر الشيطان الكبير وبجوار الشيطان الصغير صارت تتهادى ببطء ورهبة في البداية، ثم بربع واستخفاف قافلتنا المكوّنة من الوالد وولده.. وكلاهما له حماره الخاص..و من جماعة الحمارة الذي أتموا حجهم التقليدي.. وبلغوا مناهم.. طلبوا من السيد الكريم أعطاهم.. كما كانت تملأ أسماعنا فنطرب لها هذه الجملة وأمثالها تترنّم بها حناجر الباعة والوطنيين في أعقاب كل موسم.. توديعاً للحجاج من جميع الألوان والأجناس.. |
وعلى فكرة.. فإننا نستطيع هنا أن نورد كفكرة لليوم.. على أن تكون خاصة وموجهة لفنانينا الناشئين.. فما هو رأيهم يا ترى لو تصدّى أحدهم.. وتصيد تلك النداءات الموسمية القديمة للباعة وعمد إلى بعض الآلات الموسيقية.. وحشد لها رهطاً من بطانته.. وأتمّ تلحينها وأداءها بأصوات محلية من موجودات قسم الفولكلور الشعبي.. ثم توسّع فوراً في المشروع فعبأها في أسطوانات بأحد استوديوهات بيروت.. وعلى الطريقة البيروتية إياها. |
إنه بإنجاز ما خطر لنا عفواً ودون تكلّف يكون قد أنجز بما اقترحناه عملاً بلدياً ضخماً سيدخل به التاريخ من بعض أبوابه الخاصة بعالم الفن ـ للفن ـ والبلد ـ للبلد. ويكون قد استفاد هو وبطانته مادياً بما يدره وارد هذه الأسطوانات من أريل.. ربحاً حلالاً مشروعاً ـ تماماً على طريقة: حج وبيع مسابح. |
إنني لأتخيل على طريقة الأب عزيز ضيا عفا الله عنه.. إقبال أفواج الحجاج من وفود بيت الله الحرام على تلك التسجيلات.. اقتناء وحفظاً للذكرى لحجهم.. بل لا أبالغ إذا تخيلت أنه سيحصل على دخل فني منظور وغير منظور من بعض الإذاعات العربية وغير العربية التي سترددها في أيام الحج للمتخلفين عنه بما في هؤلاء وأولئك أهالي المملكة نفسها في أيام الخليف مستعيضين بها عن أغاني أسمهان وليلى مراد الخاصة بالحج فإن صوتي هاتين الفنانتين القديمتين وسواهما لا يبلغان في إيمانهما غير النظيف ما يبلغه فنانونا أبناء البلد نفسها. |
إنها خبطة فكرية.. واقتراح معقول.. وهي بعد وقبل صفقة تجارية تضمن لنا دخلاً شعبياً.. وتطرد ببساطة تامة مبدأ التطفل على مائدتنا الدسمة من أتباعها الدخلاء..كما أنها تحقيق وتنفيذ عملي للمثل القديم الدارج ـ جحا أولى بلحم ثوره. |
ومعذرة لهذا الاستطراد.. فإن حماسة الوطنية قد ركبتني قسراً من فروة شعر الرأس حتى أخمص القدم.. فلنهتبلها فرصة واقتراحاً ـ ويلاحظ هنا.. للتاريخ أن كلمتي الاهتبال والأخمص هما من تسجيلات الأستاذ الشيخ أحمد السباعي وأولياته المحفوظ له بالتسامع دون تسجيل الحق الأدبي له ـ فيهما بالطبع. |
وأعود ـ في موضوعنا لما سبق للضبط وللربط ـ فأذكر ثانية أن قافلتنا المكوّنة من سيدي الوالد ومني ومن جماعة الحمارة العائدين قد شقت طريقها في قلب منى متجهة إلى درب عرفات حيث نقصد أنا والوالد لغايتنا المرسومة.. وحيث أصبح هؤلاء الحمارة القافلين.. وقد عادوا بجر الحقائب بعد أن كانوا خفافها.. يذوبون شوقاً وفرحة للقاء أهاليهم بالأودية المنتشرة فوق هام الجبل العالي.. جبل كرا المحب المحبوب.. |
وانتظم الركب خارج مِنى، حتى إذا أمسى في وادي النار ومحسر أصبحت الحمير ظلالاً وأشباحاً شعيرية تتراقص أماميا وفي اندفاع على نغمات الحدري الرقيق من ركابها، حتى لقد أصبح ركوبها منا نوعاً فطرياً من أنواع الرقص العصري على اختلاف كبير طبعاً في الكيفية والقواعد بينها وبين رقصة التانجو ـ على سبيل المثال! |
أشهد صادقاً كذلك أن الركاب أنفسهم كانوا في حالة انسجام روحية خيالية.. تجاوزت نطاق الماديات فعطيط الله الحمَّار الكهل كان يرسل "المجرور" من قلبه وهو يتصور بعد غيبته بالحج جلسته العائلية بين زوجته وأولاده في دفء منزله بالمربعة الصفراء.. وبينهما منشورات من الفريحة التي جلبها لهم من حمص وفشار وتوابعها يتناقلونها في التذاذ، تناقلهم الأحاديث يسردها الوالد عما صادفه في الحج من مفارقات وحوادث عن الحاج السليماني ذي الذقن المتجاوزة في إسبالها صرة بطنه، وطعم الشباتي الذي ذاقه منه مكتفياً الحاج بتقديمه الشباتي له نائباً مناب البخشيش أريلا أو هللات، أو يروي لهم عن الجاوي الرشيق الحركة رشاقة الكربؤ الذي أتاهم ببقايا منه للذكرى والاستذاقة صنف من آكال سكان جزر الهند الشرقية التي لا يعرف العطيط الله منها إلا كلمة جاوى بصرف النظر عما إذا جاء تخيله الجغرافي لها صحيحاً.. فاعتبرها.. جزيرة كما هي.. أو رآها بعين خياله وادياً كوادي الغديرين.. وهنا يحلو له أن يفاجئهم برؤية عملة جديدة لا يستعملونها في الجبل ولا في الوادي بالطبع، ولا في الطائف نفسها.. ويخرج لهم "الكتب" بتشديد التاء المكسورة وسكون الباء.. ينتقل من كف إلى كف.. ويخضع طويلاً للفحص من بصر.. وبصر.. |
وهناك الحَمَّار سالم الشاب الذي سرح مع خياله الجامح.. يتصور فرحة ابنة عمّه.. وخطيبته مزنه.. وقد فاجأها مع الفجر.. لدى البئر.. وقد وضعت القربة جانباً دون أن تملأها.. لتتملّى من منظره وقد أسمرّ لونه قليلاً من سموم مكة.. وشموس الحج.. ولتطلق صيحة الفرح بما قدمه لها من عقود الخرز تتصورها عقوداً من لآلئ وجمان غالية الثمن تضعها على أعلى صدرها للقياس التقريبي.. ثم ترسل إليه نظرة طويلة حانية تحملها معنى الشكر لا تطمس لآلائه ألفاظ دارجة.. وتؤكد بها إصرارها على الوفاء لوعده وعهده. |
فلا يكاد سالم يصل إلى هذه النقطة من تصوراته حتى يندفع في التغني "بفرعي" عاطفي لذيذ يتموّج به صوته العميق الأصيل عمق وأصالة الرجولة والبراءة في عاطفته المكبوتة.. وفي حبه الصادق.. |
وهناك ـ غير الكهل عطيط الله ـ والشاب سالم من الرجال رفقاء الطريق من الحمارة الكاد حيث طيلة العام في زراعتهم وبالموسم لكراء حمرهم ـ يا رويكب ـ على الحجاج. |
وكان بِوِدِّي أن أصور حالة الانسجام لكل فرد منهم ـ لولا خشية المباعدة بين ما نحن فيه من مسايرة للرحلة ـ وما يشط بنا لمسافات شعرية بعيدة.. ولا أستثنى من تلك الحالة الوالد نفسه، ولا نفسي وإن كان كل منا هو أو أنا في دور المستمع لما ترسله بالليل حناجر هؤلاء الحمارة العائدين إلى أهليهم وديارهم، والناعمين بما توفره لهم من كسب حلال بعد جهد مرهق ـ شاق ـ وعنيف. |
ولقد واصلنا السير على هذا المنوال اللطيف.. حتى تجاوزنا عرفات ثم وصلنا أخيراً إلى "الكر" وهو سفح جبل كرا.. كما هو معلوم. وكانت هناك قديماً به بضعة أرضام من الحجارة.. يسمونها القهاوي والمنازل فاختار الوالد لي وله بعد وشوشة مع القهوجي وتفاهم خاص إحدى تلك المنازل بل أجملها.. حيث انطرحنا حالاً.. من الإعياء على أرضها العارية، إلا من بقايا خصفة قديمة وضع كل منا فراشه عليها وهو عبارة عن لحاف مبيت بقماش من نوع الساتان ومخدتين لهما نفس الشعار.. |
وانطرحنا.. متقابلين.. متجاورين في انتظار العشاء.. وقد أخذ الوالد ليطرد عني النوم يسرد لي بعض ذكريات فتوته في جدة.. حينما كان في عرف أهل حارته أحد المشاكل في الحارة.. ولكن لتلك الذكريات مجال آخر. |
|