(4) |
الحُسْكُلْ |
وعلى طريقة ما علينا من ذلك.. فإننا بعد أن وصلنا إلى عرفات.. وأدينا الحج ـ فالحج عرفة ـ ونزلنا إلى مزدلفة.. ثم مِنى ثم على حد قول الشاعر: |
ولما قضينا من منى كل حاجة |
ومسح بالأركان من هو ماسح |
أخذنا.. وأعطينا الأحاديث بينـ |
نا وسالت بأعناق المطى الأباطح |
* * * |
|
فقد أخذت وأعطيت الأحاديث مع الوالد.. وأخيراً سألته في أدب وحب وشوق أن نصعد من منى رأساً إلى الطائف بالطريق القصير المعروف من اليارويكب.. وهو طريق عرفات، فشداد فالكر فجبل كرا.. لأرى هذا الجبل الذي صار سهلاً. |
الجبل الذي كنت أحلم دائماً بصعوده.. تشبهاً ببعض الرحالين الأجانب الذين كنت أقرأ لهم وعنهم صبياً وتلميذاً في فراغي أيام دراستي وأثنائها عن قيامهم برحلات جبلية فيها المغامرة.. واللَّذة.. والشعور بالكبرياء.. وفي كشف المجهول.. ومعاناة الصعاب، وركوب الجبال.. ومما حفلت به سير مغامراتهم المتعلقة بصعود شوامخ الجبال المشهورة في بلادهم. |
واستطعت في النهاية بشيء من ملق الفتيان المحبوب لذويهم، ومن إدلالي بحيازتي الشهادة النهائية ونجاح تجربتي أستاذاً ناشئاً مع قيامي بواجب التلمذة، في نفس الوقت، كعادة الفلاح حينذاك أن أستميل الوالد الطيب وأنت تعرف الوالد كما يقول أخونا حسن قزاز كركزة له معروفة عنه فتفضل أطال الله حياته الغالية.. وأجابني إلى طلبي مضيفاً تعليلاً وهو انتهاء زحمة الحج في الأيام التي نقضيها هناك فالحج ثقيل هذا العام وما أن أخذت الموافقة منه حتى طلبت من القهوجي برادا شرطت أن يكون حسابه من مدخري البسيط الخاص ـ على حسابي.. احتفالاً بتحقيق غرضي.. |
وبعد ضمان الموافقة والاحتفال.. بدأنا تواً في التنقيب بأسلوب اكتشاف آبار الزيت في جاهليته بأمريكا. فبعد تجهيز اللوازم الخفيفة باشرنا عملية اختيار الحمار الطيب والحمير الأصلية.. فقصدنا بذلك سوق العرب. |
فقد كان من عادة بني سفيان أصحاب (يا رويكب) في الحج.. أن يفرغوا في اليوم الثاني والثالث من أيام منى بهذا السوق جميع ما في حساكلهم.. وقبل أن أذهل فإن الحسكل بضم الحاء المهملة والكاف وسكون السين المتوسطة بينهما.. ونطق اللام بالسكون لتكون لام فوقها سكون "الـ" وذلك على طريقة الكاتبين الالمعيين: عبد العزيز الرفاعي وعبد الله مناع في تسجيل نطق بعض الكلمات بالشد والضمة.. وبقية الحركات إياها.. الحسكل: كيس جلدي ذو عراوي تنتظمها سيور جلدية للفتح والإغلاق.. مخصص لحفظ النقود.. ويعلق في العنق الكريم.. بعكس محفظة النقود الحديثة ومقرها الآن الجيب الأمامي من الثوب.. والجيب الخلفي من "التراوزر" أي البنطلون.. حسب ترجمة المستشرق المعروف المستر براد بأسلوب شرح الماء.. بالماء! |
ولقد كان معظم ما تذهب فيه نقود أولئك المواطنين القادمين وراء حمرهم.. في أيام مِنى، بعد قضاء الميرة من غذاء وكساء، ما يسمونه "الفرِّيحة" بتشديد الراء المكسورة.. من الفرح.. وهي عبارة عن اللوز، والحمص، والفصفص والفشار، والحلوى الحمصية، أيضاً.. بالإضافة إلى بعض الخرز الملوّن.. يزخر بكل تلك الأصناف "سوق العرب" في مِنى.. |
وسوق العرب في حينه بمِنى.. من أشهر أسواق الحجاج عامة ـ لا العرب وحدهم.. لما يباع مما يعرض فيه من شتى الحاصلات.. ومن أعجب أنواع الصناعات المحلية.. المخالفة كليا لما كان يعرض "عكاظ" من آراء، وأفكار، وشعر، وخيال. |
ومن طرفي سوق العرب وعكاظ الكبيرين اليوم والأمس تستطيع أن تدرك كيف طغت حاجات المعدة العاجلة على مطالب الروح الخالدة.. ويمكنك أن تعتبر هذا التغاير بين التجارة المادية بالأغراض الدنيوية.. والتجارة الأدبية بالمعاني والصور والخيالات سبباً من أسباب رجوع العرب القهقرى في الصف الأممي الطويل.. وباختصار.. فقد ذهبنا إلى سوق العرب.. واخترنا الحمَّار واسمه محمد الجِدابي، واتفقنا معه على الرحلة إلى الطائف مرجعاً إلى مكة.. فقد رأينا أن من باب الاحتياط جعل الاتفاق مرجعاً.. لضمان وجود الركوبة في موعدها وللتخفيض الناشئ عن ذلك. تماماً كما نفعل اليوم للتوفير في قطع تذاكر الطائرات ذهاباً وإياباً مما يدلك على أن اللؤم الفكري في مواضيع الحساب قديماً وحديثاً واحد لم يتبدل جوهره وإن تبدل نوع الممارسة فيه. |
وعلى ذلك، فقد سمينا المبلغ الأصلي أجرة للحمارين وأضفنا ـ للإغراء ـ بعض غمزات العيون التي ينفرد قومنا بها في لغة الغزل.. وأدرك فوراً وبذكاء كما بدا من موافقته أننا عنينا أن يكون أكله وشربه وقهوته، ودخان غليونه الأخضر.. وبرطيله ـ أي بخشيشه ـ علينا طيلة الرحلة باستثناء البرطيل فإن حسابه المؤخّر سيكون دفعاً بعد العودة ـ بالسلامة إلى مكة المكرّمة. |
وهكذا.. في يوم من أيام مِنى المباركة ـ تحقق حلم الصغير الكبير في صعود جبل كرا.. كرائد من رواد الجبال الوطنية.. وكان هذا القرار التاريخي بالنسبة لي.. في صباح اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة في عام ما.. من أحد الأعوام الهجرية.. المجهولة النسب والميلاد في عالم الأرقام وهكذا.. أيضاً.. ألقى الوالد على عاتقي الصغير مهمّة تحضير الزوادة من بقايا مدخراتنا الموسوقة من جدة أصلاً باسم الحج فتوليت نشطاً فرز البقية الباقية من الكحك والمعمول والغريبة، والشابوراء، أم الكمون وحبة البركة، والجبن والزيتون مع إحكام ربط بقجة العدس الصعيدي، والرز المزه، وصرر الفلفل الأسود والملح ـ وأخيراً السكر والشاهي.. وقمت فوراً بتوزيع الزوائد مما لم يعد صالحاً بعد انقضاء الحج لأن يكون ضمن زادنا المرتب الخفيف إلى الرحلة الجديدة ودخول مدينة الطائف بعد استهلاك آخر دفعة من موجوداتنا باعتبار إمكان التجديد وشراء ما يلزم. |
وتحدد وقت السفر بعصر هذا اليوم.. وبعد أداء الصلاة جماعة وتم الأمر سريعاً بعد عقد هيئة مكوّنة من الوالد رئيساً علي والجدابي الكبير رئيساً ثانياً على أخيه الجدابي الصغير.. وبعضويتي وعضوية شقيق الحمار الصامتة كمستمعين لهما حق التصفيق والاستحسان والتهليل وترديد آمين لما يقال.. دون تجاوز حدودهما في لفت نظر.. أو اقتراح أو تعديل.. وهكذا أضحينا على سفر.. سفر مرغوب مجهول.. لرحلة تاريخية هامة..! |
|