(3) |
يا رويكب..! |
وجنوحاً إلى عدم الإسهاب!.. فقد كانت الرحلة موفقة من كل الوجوه.. وسريعة في ذاتها.. وذلك لعدم قيامنا بعمل دراسة طويلة الأجل في التخطيط للرحلة مخالفين بقرارنا هذا ما رآه أحد الركاب.. وخالفته الأغلبية الساحقة ـ فوصلنا بفضل ـ الدعم ـ كتعبير العقبة بعد أن نشط.. إلى مشارف أم القرى.. في مطلع الفجر.. وهذا في حدِّ ذاته يعطيك فكرة عن نتائج الدعم ـ أي الإقدام ـ وأنك بمقدار ما تبتعد عن أن تكون زمنياً تستطيع أن تختصر المسافة والأزمان وأن تلوي رقبة التاريخ ليكون طوع أمرك سواء كان هذا الأمر رحلة من جدة إلى مكة أم هو رحلة في طريق العلا والمجد.. |
ولقد كانت نتيجة الرحلة الحمارية الخاطفة وإن استمرّت لليلة بطولها تقريباً مع أخذ قسط من صفارى الشمس وقت خروجنا من جدة.. كانت هذه النتيجة على ظهر الأبجر.. والبرق.. والبطران وسواهم تصلبات مؤلمة في الساقين.. وتسلخات واضحة في الفخذين وتقوساً في الظهر شكل انحناءة جسدية رشيقة.. بالإضافة إلى فشخ واسع في السير.. يزول كل ذلك إن شاء الله.. بالنسبة للشباب.. بعد ليال من "التمريخ" أي المساج المتواصل لما يذكر من أعضاء الجسد العضلية. ولما لا يذكر من الأعضاء الرقيقة اللينة.. من ذوات الحشمة والستر.. أما بالنسبة للشيوخ فتمتد آثارها إلى شهور بعد الحج. |
وأنا مضطر هنا لوصف ما سلف من آثار ركوب الحمير.. حتى تعلم نابتة اليوم وناشئته.. وشبابنا ما كان يقاسيه أسلافهم من مواصلات الأمس.. ليشكروا المولى جلّ وعلا.. على ما تهيأ لهم من المواصلات الحديثة لا ضرر منها بصرف النظر عن الجيوب، على الأجساد. |
ولا عبرة طبعاً في المواصلات الحديثة بما تسجله حوادث الموت والإصابات في حالات التصادم بين السيارات ـ مثلاً ـ فإن مرد ذلك كما تؤكّد محاضر التحقيق إلى السرعة الجنونية.. وإلى ما تدل عليه بعض حالات الاستكناه.. كما أن حوادث الموت بالسيارات عالمياً.. أقل بكثير من حوادث الوفاة بين جدران البيوت فضلاً عن أن أدوات إزهاق الأرواح كلها كالسيف وسواه قديمة جداً.. مما أضطر الشاعر العربي القديم.. تخفيفاً لأثر الموت به أن يقول: |
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره |
تعددت الأسباب والموت واحد! |
|
والشاعر صادق إلى حدٍّ كبير.. فقد سمعت في نفس ذلك العام الذي أديت فيه فريضة الحج ـ أو حجة فرضي كما كنا نقول ـ أن إحدى جاراتنا في العلوي حين نشب بينها وبين زوجها خصام بسبب الغيرة، لما علمت بأنه مَلَّك ـ ولم يدخل ـ على غيرها.. ضربته بتاسومة رقيقة ـ والتاسومة نوع من الأحذية النسائية ـ فكان أن توفي بسبب هذا الصفع الناعم.. بحذاء.. لا بسيف.. أو في حالة تصادم شنيع. |
ونعود ـ بعد هذه الاستطرادة الإرشادية والإعلامية ـ لما انقطع من حديث.. عن أثر الرحلة من جدة إلى مكة موقنا من تقدير الجيل الجديد للنعمة الكبرى تسبغها على الجميع مواصلات اليوم.. بالقياس إلى ركوب الدواب التي كانت أسرعها الحمير.. حينذاك. |
وهكذا.. فبعد استراحة حوالي يومين في مكة مضيا بين طواف.. طليعي حديث وكتابة جواب الوصول كما كان يسمى.. لطمأنينة العائلة في جدة عن وصولنا بالسلامة مع إغفالي عمداً وضع كلمة "بدوح" كتابة.. والرقم الخرافي المبارك على الظرف كما كان متبعاً لضمان وصوله إليها.. دليل تحرر فكري.. طليعي حديث.. فقد باشرنا في ترتيب الطلوع إلى عرفات واستقر الرأي.. دون تداول مرتب فيه.. أن أخف المواصلات لعرفات بالنسبة للزحام وحوادثه.. استعمال يا رويكب.. ويا رويكب.. في الشائع تاريخياً نداء معروف، آنذاك لطالب الركوب.. وهو كما لا يحمد التنويه هنا عنه.. تصغير لكلمة راكب.. أي يا من تريد الركوب. ومرد التصغير فيه كما يلوح لي التحبيب والدحلسة لاستجلاب أكبر عدد من الركاب أي الحجاج. |
أما نفس المركوب.. الذي غلب عليه اسم يا رويكب نفسه ـ فهو في مجموع النداءات عليه.. نكرات من الحمير الريفية القميئة يتصيد بها إخواننا البدو، وبالأخص الوافدين موسمياً من ضواحي الطائف وقراه، الحجاج من الخارج والداخل من أمثالنا.. كما يتصيدون الجراد بالضبط في موسم الأمطار، ومن الغريب أن أولئك اليارويكب من الحمير الريفية القميئة تشبه الجراد في ضآلة حجمها وخصائصها الجسدية الضامرة بالنسبة للحمير البلدية الفارهة الأجساد والوسيمة المناظر. |
ومع أنها خفيفة الحركة.. وكثيرة المروق في الصفوف والزوغان بينها فإنها معرضة دائماً للسقوط بذواتها وبركابها معاً ـ كلما زاحمتها أخواتها من ذوات الأربع ـ أو حينما كانت تتوه بين قوافل الجمال عليها الشقادف والشبارى والكجاوات والهوادج.. |
وأطرف ما في موضوعها.. أنها في نفس الوقت الذي تسقط فيه يختفي صاحبها الحمار بين الزحام ـ كأنما هناك اتفاق سابق بينها وبين صاحبها على أنه لا يلبث بعد ذلك أن ينتصب واقفاً أمام الراكب الذي سقط به حماره فساعد نفسه بنفس واستعاد مقامه وهيئته بالركوب من جديد على طريقة (هلب يور سلف) أي ساعد نفسك. |
كما كانت السمة البارزة في حمارة هذا النوع ـ يا رويكب ـ إننا لا نجدهم في وقت الحاجة إليهم ـ كالسقوط مثلاً ـ وإنما يظهرون لك من وسط الزحام.. قبيل أوقات الاستراحة المقررة بإحدى المقاهي لمشاركتك شرب الشاي.. أو تناول شيء من الزاد الحصري الخفيف. |
وكانت لهم لازمة ظريفة في المواقف النهائية الحاسمة.. فهم ينادونك أثناء الطريق إلى عرفات بيا حاج.. وبيا.. ويا ها.. أنت يشيخ.. ولكن ما تكاد تصل إلى غايتك.. حتى يستحيل النداء إلى كلمة ـ يا عميمى! ـ وعميمى طبعاً تصغير لفظة ـ عمي ـ يقولونها للتقرب ولإرضاء الغرور. وإرخاء الأعصاب. وذلك تمهيداً نفسياً مرتباً لأن يضيفوا على الأجرة المقررة والمتفق عليها بعد استلامها في حينها.. مبلغاً إضافياً باسم شرب القهوة على حساب عميمهم الراكب.. ولا يتركونه إلا بعد استلامه.. ومبلغ شرب القهوة هذا يعادل اليوم بالضبط الإضافة الخاصة على مبلغ العشرة بالمائة بالعصر الحديث يضاف باسم خدمة على فاتورة الحساب في الفندق، وفي الكازينو.. والمطعم.. فهو يؤخذ مكرراً بعد تسديد الفاتورة المشتملة على الأصل بسيف الحياء نقداً مستقلاً من كل زبون حسبما تجود به نفسه فكما يعمد الجرسون بعد أو حين تسديد الحساب إلى ندائك بأحب الأسماء إليك وأفخمها مستر.. مسيو اكسلانس.. وإلى تمسيح آثار المائدة أمامك وإلى بقية الحركات الجرسونية.. والنمر المتداولة عالمياً بالتلقي والاصطلاح.. يعمد هؤلاء الحمارة إلى ندائك بيا عميمى وما شابه.. وعليه، فلا فارق إطلاقاً بين ما كان عليه أسلوب الحمار في الموسم سابقاً في بلادنا وبين الأسلوب العصري بعد تسديد الحساب الأصلي والسرفيس في تقاضي البقشيش الخاص. |
ومرّة أخرى يستطيع من كان يدفع بعد سقوطه من حماره ووصوله لقصده، ومن يدفع بعد إهمال طويل من الجرسون.. وحضوره في اللحظة الحساسة الحاسمة حين تسديد الفاتورة أن يقول كلّ منهما للآخر.. لا جديد في تحت.. أو من فوق.. |
|