(2) |
صيد الفيل |
قلت.. لقد كان باستطاعتي أن أورد حكاية الجبل الذي صار سهلاً بأسلوب سيدنا الفقيه.. عن سيدنا يوسف.. أنه ولد ضاع من أبيه والتقاه.. ولكن في إيجاز كإيجاز سيادته بالنسبة لنا.. تيسيراً لشيوع الأسلوب التلغرافي بين الكتاب من جديد وتضييقاً لباب الرزق اليومي.. ومخالفة صريحة لطبيعتي في التصفية وفي التحتيل.. كما أن فيه إلجاماً لأقلامنا القابضة.. والدارجة على حالات الإسهال الكتابي المنتشرة في الأوساط الأدبية.. وبالأخص لدينا نحن الكهول من الأدباء بحكم السن وعدم القدرة على الإمساك.. وعن الثرثرة والتمطيط.. تزجية لفراغ.. أو تسلية لأحفاد.. كما أنني مجبر لانتهاج هذا الطريق الطويل في سرد حكايتي عن الجبل.. لأنني معجب إلى حدِّ الغرام الذاتي.. بالطريقة الألمانية في صيد الفيل.. وخلاصتها كما تعيها الذاكرة كالآتي: |
تخيل أحدهم أساليب بعض الأمم المصورة لطريقتهم في الحياة.. عندما يتهيَّأ فرد من أفرادها للخروج من المدينة لصيد الفيل.. فشرح طرائقهم بالنسبة لأجناسهم.. ومع شيء من التوشية منا وحذف ما لا بد من حذفه لعدم ملاءمته الجوية لطقسنا العام قال: |
الإيطالي: سيقوم عندما يقرر اصطياد الفيل.. بأخذ الماندولين.. وهي آلة موسيقية كما هو معلوم.. وكذلك اصطحاب فرشاة الرسم.. وقبل وبعد أي شيء.. برميل صغير من عصير نابولي.. وشيئاً من المكرونة الاسباجتي. |
الإفرنسي: سيصطحب معه سكرتيرة سفره.. ومجلته اليومية.. ولحية مدببة ربى شعراتها لهذا الغرض بصورة خاصة وذلك تمهيداً للعودة بها مشعثة طويلة بها شعرات بيضاء غير ممشوطة للتدليل على ما لاقاه من أهوال.. على أن تكون معه قبل كل شيء أيضاً بعض زجاجات مفضوضة من ماء بلده.. |
الإنجليزي: سيأخذ علبة الطباق ـ ودستة منوعة من البايب ـ وكتاباً قديماً عن الأمم، مع أطلس جغرافي.. وورقاً حساساً لرسم خريطة مستوفية للأماكن الاستراتيجية هناك.. أي في مواطن صيد الفيل.. بالحيلة. |
الألماني: أما الألماني فقبل خروجه فعلاً لصيد الفيل.. فسيعكف في غرفة خاصة ليكتب ستة مجلدات علمية بخط دقيق.. يقول عنها ـ إنها تمهيد ابتدائي.. لدراسة الفيل! |
وهذا الأسلوب الألماني في روحه ومدلوله.. هو شاهدنا من هذه الرواية.. تمثيلاً موجزاً لما سيكون عليه أسلوبنا.. مع الاختصار القسري بقدر الإمكان كذلك.. في حكايتنا عن الجبل الذي صار سهلاً.. |
وبعد.. |
.. ففي يوم ما.. من عام ما.. وعدم التحديد هنا ضروري للتشويق للقيام بعملية معرفة السن.. من خلال الحوادث وظروفها.. على طريقة حاوريني يا طيطا.. |
وكنت قد أكملت دراستي بمدرسة الفلاح بجدة بفصلها الأخير الذي كان مقره بها حينذاك يسمى (القبة) طلبت من والدي أن أحج.. ولم أطلب شططاً بل كان طلبي هذا في حقيقته.. تنفيذاً لعادة الآباء في الأعوام السابقة حيث درجوا على الحرص على تأدية أبنائهم حجة فرضهم بمجرّد بلوغهم سن الرشد.. ولما كانت الحمير حينذاك ـ أعز الله القارئين ـ من بين وسائط النقل الدابي أسرعها فقد كنت عصر ذلك اليوم الما.. من العام الما.. راكباً بالطول حيناً.. وبالعرض أحياناً.. أحد بهائم العم "الحتحوت".. وكان الحتحوت هذا.. حماراً ـ بتشديد الميم ـ شهيراً في زمانه.. حتى لتضارع شهرته آنذاك.. شهرة أكبر أجنس للسيارات اليوم.. فقد كان لدى المرحوم أنواع.. وموديلات مختلفة من الحمير الأصيلة في حميرتها ـ والمعروفة بأسمائها المتداولة.. ومن ضمنها الأبجر، البرق، البطران. والمعادلة تماماً.. تماماً.. في الشهرة والسرعة وقتها.. للمرسيدس والموستانق والرامبلر، والإمبريال والفولفو الآن.. |
وخرجنا ـ ضمن بقية ركاب حمير الحتحوت.. من باب مكة والرجل يسعى على قدميه إكراماً لنا من مركز شيخ الحمارة أمام زاوية المغربي الباقية حتى الآن من ناحيتها الشرقية إلى أن تجاوزنا البوابة الوسطى.. وقد عاد من أمام مقبرة الأسد بعد أن أوصى علينا.. وعلى البهائم كتعبيره ـ العقبة! ـ والعقبة حمار فوقه رجل ينتدبه صاحب الحمير نيابة عنه.. ليكون في المؤخرة لتعهد البهائم.. ثم الركاب ويلوح لي من حركات الكلمة أنها عربية قحة يأتي تصريفها من لفظة العقب.. وهو المؤخرة.. من القدم.. أو من أي شيء. |
وهناك نوع من التداخل العقبي بين الحمار وراكبه فكلمة العقبة تطلق على الحمار.. والحمار ـ غطرسة من الركاب على من يخدمهم واستخفافاً بشأنه في المساواة في التسمية بين الراكب والمركوب. |
وراكب الحمار.. يلتذّ بالمراحل الأولى من سيره.. حتى إذا طال المشوار ابتدأ بحكم المشي الروتيني يتململ.. ثم لا يلبث بعد أن تبدأ بوادر التسلخ ـ أن يحن إلى الراحة بعض الوقت ـ ومن معرفة هذه الحقيقة البسيطة فيما يظهر نشأت فكرة ـ أو مشاريع فتح المقاهي على طول طريق مكة ـ جدة ابتداء من الرغامة حتى مدخل أم القرى.. ولكل مقهى اسمه المشهور حينذاك.. وكنت في بداية المسير أحب الراكبين إلى استمرار السير.. ولكن بعد أن ذقت حلاوة الراحة في المقهى لبعض الوقت.. أصبحت أول المتطلعين إلى نور المقهى يبدو خافتاً ضئيلاً كحلم من أحلام اليقظة.. في أول الليل.. |
وهكذا تتابع السفر بنشاط جديد ـ بعد استراحة طويلة ـ في استراحة بحرة ـ وكانت تعتبر المحطة الرئيسية الكبرى ـ لوقوعها في منتصف الدرب تقريباً.. أو أنها بالتعبير المرادف العصري الرشيق.. الرست هاوس.. الوحيد.. |
وقد حدث ـ لكيلا أنسى ـ أثناء سيرنا وقبيل وصولنا إلى بحرة حادث عرضي بسيط ـ لكنه جدير بالإشارة ـ وهو أن الركب لم يلاحظ وجود ـ العقبة ـ وصاحبه وراءنا فقد انقطع صوت غنائه.. فتوقفنا بإشارة من راكب أفخم حمار، لاستطلاع الخبر ـ وعاد بعضنا ـ ورجع بعد قليل ومعه الرجل.. وفهمنا أن البردعة قد تزحلقت ـ وسقط الراكب عقب نعاسه ـ نتيجة إرهاقه.. فهو يذهب إلى مكة ويعود يومياً إلى جدة.. تقريباً فأسعف بما يجب.. وتلك إشارة لها خطرها في باب المقارنة بما يحدث الآن لجماعة من السيارات تبنشر الأخيرة منها وتعود أقوى السيارات وتنشط البقية لإسعاف السائق ومساعدته في تركيب البنشر.. وهكذا، فلا جديد.. في الليل.. أو تحت الشمس! |
|