ـ 53 ـ
(1)
|
والحكاية اليوم شعبية الجو.. بلدية الروح.. ترد رمزاً ساخراً بأولئك الذين تنقصهم الشجاعة فيتظاهرون بها معادلة طبيعية لمركب النقص فيهم.. وهي توازي في خط سيرها هذا شقيقتها الحكاية المعروفة عن صاحبنا الذي.. خلى الدبان الأزرق يأكل من غائط عدوه.. وتقول: كان رجل حطاب يعيش على الخروج إلى ظاهر البلدة التي يسكنها هو وزوجته ليحتطب وليعود ليبيع ما جمعه بما يقيم أوده وأهله.. |
وكان يقتني مجموعة من النبابيت في بيته.. وقد سمى كل نبوت منها بعدد من غالبهم بها وغلبهم على حد زعمه.. فهذا نبوت الواحد.. وهذا النبوت أبو خمسة.. وذلك نبوت أبو عشرة.. و.. إلى آخر الأعداد يكفي بتسميتها العددية عن ضحايا نبابيته.. أو هزائمهم منه بواسطتها.. |
فكان عندما يتهيأ كل صباح إلى الذهاب لمحل احتطابه يطلب إلى زوجته شامخ الرأس.. نافخ الصدر أن تعطيه نبوتاً يسميه لها.. فيوماً يقول هاتي ((أبو خمسة)).. أو ((أبو سبعة)).. أو سواهما.. ويخرج لعمله ثم يعود آخر النهار ليصف لها ما لاقاه في يومه.. ومن لاقوه فغلبهم أو تركهم يفترشون الأرض منكسرين صاغرين.. وذلك في خيال ساحر ووصف رقيق كأنما هو في استرساله وعدم لعثمته ودقة وصفه يروي واقعاً فعلاً.. ويقول الصدق لا ريب ولا شبهة فيه.. وما هو من ذلك كله في شيء.. |
وعاشت زوجته معه عيشة الهجص.. وصبرت طويلاً على هذا الفشر المتواصل.. وكانت ذكية أريبة.. ولكن استمرار هذه الحالة ضايقها وودت لو وضعت حداً لها.. فقررت في نفسها أمراً.. |
فعندما أصبح الصباح ذات يوم وتهيأ زوجها الحطاب للخروج طلب منها النبوت ((أبو عشرين)).. فأعطته إياه.. وتظاهرت بعجلتها لانشغالها في أمور البيت من كنس وطبخ وخلافهما.. حتى إذا خرج ذهبت هي إلى جارة لها.. زوجها ضابط مرموق.. فسألتها أن تعيرها بدلة من بدلات زوجها وفرسه لمقدار ساعة من النهار ثم تعيد كل ذلك إليها.. فسلمتها ما طلبت حيث عادت إلى بيتها ووقفت أمام المرآة وارتدت البدلة وتلثمت بفضلة من لباس الرأس.. وارتدت القفاز.. وركبت الفرس.. وقصدت إلى حيث يحتطب زوجها في المنطقة التي وصفها لها وسماها عند خروجه. |
وحينما رأته صاحت به.. مقلدة صوت الرجال.. في صوت أجش لكنه صارم مهيب.. فخف الحطاب مذعوراً ملبياً نداءها وهو يظنها ضابطاً من الضباط الكبار.. فقالت له: ما الذي جاء بك لهذه المنطقة أيها الحطاب الحقير؟.. ومن الذي أذنك بالاحتطاب فيها أيها الصعلوك؟ فتوسل.. وبكى واستعطف.. وحلف أنه لن يكرر هذه الغلطة الشنيعة.. وما زالت به تشتمه.. وتركله.. وتتوعده.. وهو يبكي متوسلاً نادماً.. وبجواره نبوته ((أبو عشرين)) ملقى على الأرض.. |
حتى إذا قبلت توبته في النهاية على ألا يعود لهذا التعدي.. أخذ يقبل قدمها في الركاب.. وما لحقه من أطراف جسدها في تذلل وخضوع.. فخلعت القفاز ومدت إليه يدها فجعل يقبلها والدمع يغشي عينيه ظهراً لبطن مرتبكاً لا يكاد يصدق بالنجاة من العقاب. |
وأخيراً أدارت له ظهرها وسارت بفرسها حتى بيتها.. ثم بيت جارتها حيث أعادت إليها البدلة والقفاز والفرس.. ورجعت لدارها في انتظار زوجها البطل الشجاع.. قتال القتلا.. كما يحلو له أن تسميه.. وحين أقبل في ميعاده كعادته.. ابتدأ يحدثها بما صادفه في نهاره هذا على الأخص.. يقول لها: |
أما اليوم.. أما اليوم.. فقالت ها.. ها.. قال.. |
لقد كان عصيباً جداً.. بس على مين؟.. على جوزك اللي تعرفيه.. إنني بعد أن تخلصت من المشاغبين العاديين.. ما أصحى إلا وواحد ضابط كبير.. وراكب فرس.. جاني وابتدا يتبجح في الكلام ويشتم.. فتناولت ((أبو عشرين)) من سكات وناولته به.. فإذا هو طريح الأرض.. ففضلت الانتقال لمنطقة أخرى وتركته مكانه.. بين الرجا واليأس.. لأني ما حبيت أخلي الضربة جامدة كتير.. راجل رسمي.. ولابس بدلة.. وراكب فرس.. على كل حال.. |
وهنا قالت له الزوجة ـ هو جالك راكب فرس أسود.. قال طبعاً.. طبعاً.. وهو شتمك.. وقال كذا.. وكذا.. ونت جاوبتو بقولك كذا.. وكذا.. واستمرت تسرد رؤوس أقلام مما تم في تخابث.. وباستنتاج مصطنع ولكنه يصور الحقيقة التي تعرفها.. حتى انتهت إلى نقطة خلعه القفاز ومناولته له الكف ليسلم على يد الضابط وصرخت به.. ألم تسلم على هذه الكف مراراً.. وتكراراً.. |
فشهق.. وأدرك ما حصل.. ولكنه قلب يدها مازحاً معها.. بقوله: هو أنت؟.. أتاريني جالس طول النهار أفكر.. وأقول: |
أنا شايف ـ يا واد ـ هادي اليد.. فين؟.. فين؟.. فين؟.. |
* * * |
|