ـ 50 ـ
(1)
|
يردد بعض الناس الشكوى من أنهم هم الذين يقومون فعلاً بالأعمال ذاتها حين يتولى غيرهم نسبتها إلى أنفسهم.. فيعيشون حياتهم دائماً مغمورين أو خيال ظل لسواهم.. |
ويستعجل البعض من هؤلاء نصيبه فيجأر بالصراخ ويجهر بما هو فيه وبما ينبغي أن يصير إليه مغفلاً قانون الحياة وطبيعة الكون.. ناسياً الجملة الشعبية الشائعة.. كل شيء في وقته مليح.. وإن الله جعل لكل شيء سبباً وأن الوصول للسطح يستدعي الصبر على صعود درجات السلم. |
والحكاية اليوم عن جوانب هذه الظاهرة تشتمل كذلك على شهادة طيبة تزكي المثل البلدي القائل.. صنعة في اليد أمان من الفقر.. وهي عن هذه وتلك تقول: |
يحكى أن رجلاً كانت له يد ماهرة في صناعة الصياغة. وكان أوحد أهل زمانه ثم ساء حاله وافتقر.. فكره الإقامة في بلده وانتقل لبلد آخر.. فسأل عن سوق الصاغة فوجد دكاناً لمعلم السلطنة وتحت يده صنّاع كثيرون يعملون الأشغال للسلطنة.. وله سعادة ظاهرة ما بين خدم وحشم وأبهة وغير ذلك.. فتوصل الصائغ الفتان الغريب إلى أن أصبح واحداً منهم في دكان المعلم الكبير.. وأقام عنده يعمل مدة وكلما فرغ النهار دفع له المعلم المستغل درهمين من فضة في الوقت الذي تكون أجرة عمله الحقيقية تساوي عشرة دراهم فيكسب المعلم عليه ثمانية دراهم يومياً. |
وهكذا سار العمل والعامل والمعلم على هذا المنوال.. حتى اتفق في يوم أن السلطان طلب المعلم وناوله فردة سوار من ذهب مرصعة بفصوص في غاية من الحسن قد عملت في غير بلاده ولكنها انكسرت فقال للمعلم ألحمها بحيث لا يظهر موضع الكسر فأخذها المعلم وقد اضطرب عليه عملها.. فلما أراها للصنّاع الذين عنده وعند غيره لم يقل له أحد منهم إنه يقدر على عملها فازداد غماً.. ومضت مدة وفردة السوار عنده لا يعلم ما يصنع واشتد طلب السلطان لها.. وقال هذا المعلم نال من جهتنا هذه النعمة وهو لا يحسن أن يلحم سواراً. |
فلما رأى صاحبنا الصانع الفنان الغريب شدة ما نال المعلم قال في نفسه هذا وقت المروءة أعملها ولا أؤاخذه ببخله علي واستغلاله إياي وعدم إنصافه لي.. ولعلّه يحسن إلي بعد ذلك.. فحط يده في درج المعلم وأخذ فردة السوار وفك جواهرها وسبكها ثم صاغها كما كانت ونظم عليها جواهرها فعادت أحسن مما كانت عليه.. فلما رآها المعلم فرح فرحاً شديداً ثم مضى بها إلى السلطان.. فلما رآها استحسنها فادعى المعلم أنه هو الذي صنعها بنفسه فأحسن إليه وخلع عليه خلعاً سنية.. فجاء وجلس مكانه في دكانه.. وبقي الصانع الغريب ينتظر مكافأته عما عامله به فما التفت المعلم إليه.. بل إنه في نهاية النهار لم يزده على الدرهمين المقررين أية علاوة جديدة! |
ولم تمض أيام قلائل حتى رغب السلطان أن يعمل زوجين من الأساور على تلك الصورة فطلب المعلم وأخبره بما يحتاج إليه مؤكداً عليه إتقان الصنعة وسرعة العمل ـ فجاء المعلم للصانع الغريب وكلفه بطلب السلطان فامتثل وباشر العمل بهمة وتفانٍ وإخلاص حتى أكمل زوج الأساور والمعلم لا يزيده على الدرهمين المقررين يومياً أي شيء بل ولا يشكره ولا يعده بخير ولا يتجمل عليه بجديد. |
لذلك.. فقد رأى الصائغ الغريب أن ينقش بموضع خفي من أحد السوارين أبياتاً يشرح فيها حاله ليقف عليها السلطان.. فنقش في باطن أحدهما نقشاً خفياً هذه الأبيات: |
مصائب الدهر.. كفى |
إن لم تكفي.. فعفي |
خرجت أطلب رزقي |
وجدت رزقي توفي |
فلا برزقي أحظى |
ولا بصنعة كفي |
كم جاهل في الثريا |
وعالم متخفي! |
|
وقرر الصائغ أنه إن ظهرت الأبيات للمعلم ورآها شرح له وضعه.. وإن غم عليه ولم يرها كان ذلك سبب توصله للسلطان.. ثم لفهما في قطن وناولهما للمعلم فرأى ظاهرهما ولم ير باطنهما لجهله بدقة الصنعة ولما سبق في حكم القضاء بل مضى بهما فرحاً للسلطان وقدمهما إليه فلم يشك أنهما من صنعه فخلع عليه وشكره. |
وهكذا عاد المعلم فرحاً فجلس مكانه بالدكان ولم يلتفت للصائغ الغريب ولم يزده آخر النهار شيئاً على الدرهمين.. فلما كان اليوم الثاني خلا خاطر السلطان فطلب السوارين وأعاد النظر فيهما وفي دقة وحسن صياغتهما.. واكتشف الأبيات المنقوشة فقرأها وتعجب جداً.. وقال لا شك أن هذا شرح حال صائغهما، وإذاً فالمعلم كذاب وليس هو بصائغهما على كل حال.. وغضب عند ذلك وأمر بإحضار المعلم فلما حضر قال له من صاغ هذين السوارين؟ قال: أنا أيها السلطان.. قال فما سبب نقش هذه الأبيات؟ قال لم يكن عليها أبيات.. قال كذبت ثم أراه النقش وقال إن لم تصدقني الحق لأضربن عنقك.. فاعترف! |
حينذاك أمر السلطان بإحضار الصائغ الغريب وبسؤاله عن حاله روى له قصته كلها وما عامله به المعلم.. فأمر بعزل المعلم وجعله مكانه وخلع عليه الخلع السنية.. فلما نال ذلك وتمكّن تلطف لدى السلطان في العفو عن المعلم بل وجعله شريكاً معه حامداً المولى على ما أسبغه عليه. ولسان حاله يقول: إذا كان سعد المرء في الدهر مقبلاً تدانت له الأشياء.. من كل جانب! |
* * * |
|