شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سَبْعَ اللِّيلْ..
ميناء جدة.. التي هي دهليز الحرمين ـ أو عروس البحر.. كان ولا يزال الميناء الأول والأكبر للمملكة ـ ومركز التجارة الرئيسي لها.. كما أنه ـ أي الميناء.. والميناء كلمة يونانية الأصل للعلم الكريم.. كذلك بالنسبة للحج. وكما هو معلوم للعموم فقد كان قدوم الحجاج كلهم يتم عن طريق البحر.. وقبل أن يتم عمل الميناء الحاضر والذي كان للعبد لله شرف المشاركة في التفكير المبدئي فيه وفي المساهمة بتأسيسه ـ كمدير حج عام كانت بواخر الحجاج تقف في عرض البحر بعيداً عن الرصيف ليقوم البحارة.. وكلهم من حارة البحر التي كانت تعتبر الحارة الرابعة لجده ضمن محلة اليمن.. بنقل الحجاج من عرض البحر في الأبوات.. واللنشات. ولقد كانت لهؤلاء البحارة بطولات نادرة في هذا العمل الجبار الفريد ـ وخصوصاً وقت الأنواء.. وعند اضطراب الأمواج.
وبالمناسبة.. فقد كان لميناء جدة المائي بعرض البحر في أيام الخليف.. منظر شعري رائع.. وبالأخص في الليل.. فكأن البواخر فيه قوافل جمال برية.. تزينها الأضواء المتلالئة في أنحاء قريبة متساوية الصفوف.. وذلك حين وحيث تقف هناك لأيام ولليالي عديدة مؤلفة من أكثر من عشرين باخرة متباينة الأحجام.. مختلفة الجنسيات في انتظار عودة ركابها الحجاج بعد أداء النسك لإعادتهم إلى بلادهم ـ كما كان أهالي جدة يقضون أيام الخليف.. أيام وليالي عيد الحج في بشاك وجماعات داخل تلك البواخر ـ ومعهم أكلهم.. وأدوات الشاهي.. وألعابهم من الضومنا إلى الداما إلى ورق.. الجوكر.. مع قيامهم بالتجول على كل البواخر الموجودة بعرض البحر وعودتهم لباخرة نزولهم الدائم التي اختاروها لذلك ـ هذا ـ وبالرغم من شهرة عديد من رجالات البحر من بيت أبو داود وأبو صفيه ـ وسلامه ـ والمناع.. وعنبر خالص ـ إلا أنها ـ أي الشهرة.. عقدت لواءها لشاب أسمر اللون.. سمهري القوام كما يقول التشبيه العربي ـ كأنه الرمح الطويل ـ أو الشوحط الأطول لا عقد فيه وقد طلع هذا الشاب فجأة كما يطلع أو ينبت النبات الشيطاني ـ ومع قدوم الشهرة المفاجئة له ضاع اسمه ولقبه الأصليان.. وبقي له اسم ((سبع الليل)) وربما ساعد على ذلك أن سبع الليل هذا كان أبكماً.. لكنه لذكائه كان يلتقط الكلمات من شفتي محدثه وكأنه جهاز التقاط حديث.. كما كان يلتقط ويفهم الإشارات ويجيب عليها بصورة أسرع من إشارات مورس!!
ولقد كان المنطق يقضي بأن يسمى ((سبع البحر)) لأنه بحري أصيل ـ ولكن لأمر ما أطلق عليه اسم ((سبع الليل)) وسبب هذا ((الأمر ما)) إنه كان كثير التجوال بالليالي.. والمظلمة منها على الأخص.. فلا تكاد العين تراه حين يبرز بفحمة جلده السوداء من قلب الليل الأسود البهيم.. حيث كانت الإضاءة في جدة بالفوانيس.. فوانيس البلديه ـ التي يدب فيها النعاس من أول الليل إما لخراب في بلبلة الفانوس.. أو لنقص الغاز نتيجة لاتساع الذمة آنذاك لشفط نصف أو ثلاثة أرباع المقرر وبيعه بالتفرقة.. أو بالجملة!!
وكان ظهور سبع الليل المفاجىء للمارة بسواد جلده المتفق مع سواد الليل مصدر خوف ورعب في بداية الأمر ـ ولكنه أصبح مصدر اطمئنان وراحة. لأن ظهور سبع الليل المفاجىء هذا إنما كان لعرض خدماته الكبيرة والبسيطة فهو يستطيع أن يوجد المعدوم في الأوقات المتأخرة لطالبه سواء كان هذا المعدوم خبزاً للأكل.. أو دخان فراطة للكيف.. أو دفاتر لف.. أو كبريت.. أو نداء داية للتوليد.. أو مقرىء يسهر على الميت.. أو .. إلى آخر هذه الأوات المتعددة المطالب والأنواع.
وعندما اطمأن سبع الليل لشهرته الليلية الواسعة.. أخذ حينما لم يكن عمل البحر يقتضي وجوده يظهر للناس في النهار عارضاً خدماته أيضاً فيه.. وكانت فزعاته المهمة تتجلى كذلك في ليالي الأفراح.. وفي المآتم على السواء.. ولا يزال المخضرمون.. وحتى جيل الشباب المنحدر الآن للرجولة أو للكهولة ببطء.. يذكر سبع الليل ويتذكر خدماته.. وهل يمكن لأحد منهم أن ينسى السبع؟؟
ولا نحتاج أن نقول أن عمله البحري ذاته كان مصدر إعجاب وتقدير.. فهو السبب الأول في شهرته ـ لقد كان سبع الليل يتسلق الدقل ويلف الشراع في لمح البصر ـ حتى لقد أصبح المتخصص الوحيد في وضع الأعلام للقنصليات والسفارات بأعلى البنايات.. وإلى مدى جوي بعيد.. كما كان.. سريع الغوص في البحر إلى قامات وقامات.. حيث يطفو بسرعة مماثلة وفي يده ما سقط من صاحبه عفواً ـ أو ما أسقطه عمداً ليلتقطه السبع ويعيده إليه.. وكان يتم ذلك في مجال الاختبار لسرعة غطسه في البحر.. وقبه منه.. في لمحات قصيرة..
وكان سبع الليل كاللولب ـ أو كالصاروخ السريع في دورانه على البواخر أيام الحج وقضاء لوازم أو نواقص كل بشكة.. مع عدم إغفاله البشك الموجودة في جزيرة أبي سعد أو جزيرة الواسطة أو حتى جزيرة الجن المنعزلة لوحدها في وسط البحر ـ وحين تعطل عمل وسائط النقل البحرية أو خف كثيراً بعد أحداث الميناء.. سهر سبع الليل بسرعة في معرفة سائقي السيارات وفهم موديلاتها.. وملاحقة المحتاجين للخدمات بها من سواقين ومساعديهم ـ وذلك يدل على حاسة القابلية النقلية للتطور الدائم فيه ـ ويقال إنه كان يطمع في آخر أيامه في الخدمة الطيرانية.. فقد شوهد مراراً يقف على أرض المطار أو قريباً منه مع مجاذبة الكباتنة وطاقم الطيارات أطراف الحديث بطريق الإشارات بالشفاه.. أو بأصابع اليدين.. ولم يمنعه بكمه.. ولا سواد لونه.. ولا أميته عن تنويع نشاطاته في كل مجال المواصلات.. والنقل ‍‍!! ‍‍
لقد كان الناس لوقت غير بعيد جداً يتناقلون الجمل المتتابعة مثل: عليك وعلى سبع الليل!!.. شفت لي سبع الليل؟؟ ازهم لي سبع الليل!! أهوجا.. جا سبع الليل! إلى آخر.. وفي ذلك دلالة قاطعة على فعالية وديناميكية ـ حسب التعبير العصري ـ السبع.. وعلى حاجة الناس له.. وعلى الثقة التي أولوه إياها.. وكذلك على نشاطه الوفير في أداء الخدمات بأنواعها ـ في ضحكة تبرز حلاوة أسنانه البيضاء التي يفضح ببياضها لون بشرته السوداء..
وأخيراً.. فلا أذيع سراً إذا قلت إنني قبل أمد طويل بعض الشيء قد دخت في البحث عن سبع الليل ـ وتقصَّي آخر أخباره.. وذلك لمعرفة وجوده ـ أو تاريخ وكيفية وفاته.. حتى علمت في النهاية أن الله قد تغمده برحمته في هدوء وانزواء ودون العلم بذلك حتى من عارفي خدماته.. وكان لا بد بالنسبة لتاريخ شخصياتنا الشعبية من تعقب هذه الشخصية التي كانت قبل ـ أن أنسى.. من مكملات الفرحات العامة وخصوصاً فرحات العيد حيث تجد سبع الليل في محلات أعياد اليمن والمظلوم والشام.. وهو على استعداد تام لأن يتلقى بالأحضان من تقذف بهم المداريه.. في الألواح ـ أو الشباري ـ أو صناديق العيد من الأطفال والصبيان قبل أن يسقطوا على الأرض ويحدث لهم ما لا تحمد عقباه ـ كما تخصص بعد اعتزاله الخدمات العامة لكرة القدم. حتى أصبح الوحيد المنفرد لتحضير ملعب الصبيان بأجر وبدونه في المباريات الكبرى!!
ذلكم ـ هو سبع الليل بلونه الأسمر.. وبأسنانه البيضاء.. وبثوبه القصير.. وبتقشمط وسطه بالبقشة الكشميري.. ورأسه بالعمة ذات العذبتين.. العذبة الطويلة المرسلة وراء ظهره والقصيرة المدلاة على شحمة أذنه اليمنى.. وبأقدامه الحافية المتشققة يجففها بالتراب.. بعد أن ملت ماء البحر..
أما سبب تسميته ((سبع الليل)) بدلاً من سبع البحر حيث عمله وحياته ودنياه ـ فيرجع إلى ما أسلفنا من بروزه المفاجىء بسواد جلده من إهاب الليل الحالك..
وبعد.. فقد استمعت قبل ليالٍ مضت إلى أحد البحارة الشيوخ.. وهو يستمع إلى أغنية قديمة حلوة للأستاذ محمد عبد الوهاب ـ وكل أغانيه القديمة حلوة ـ حيث طلب هذا البحار الشيخ من الدكتور عبد الله مناع أن يكلف عمه اسماعيل ليتوسط لدى أستاذه الفلاحي القديم لعمل مقطوعة تلحن لتغنى إحياء لذكرى فقيد المروءة سبع الليل ـ فكان له ما أراد ـ أو من ـ تلال ـ بالتاء بدل الطاء ـ على العود المنفرد والذي كان السبع يميل إليه ـ ولا يمل من سماعه: ـ
يا عروس البحر.. يا ذات الشراع
واسع الامداء.. باعاً بعد باع..
راقص المقداف.. في ذاك الدراع
مده في بحرنا.. سبع السباع!!
كيف تنسين فتى حلو السواد
أبيض الأسنان.. ذري الفؤاد..
يقطع الليل.. سريعاً للتنادي
يجلب العازة من أقصى البلاد!!
لافف العمة.. محبوك الحزام
حافي الرجلين.. عاماً بعد عام..
فلفلي الشعر.. مياد القوام
بين بشكات.. وحشد.. وزحام!!
أين سبع الليل.. يا بنت الليالي
أين؟؟ يعني أين القاه.. قبالي؟؟
خبريني.. يا ابنة العم هلال
كيف ضاع الواد.. يا بنت الحلال؟؟؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1168  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 46 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الخامس - حياتي مع الجوع والحب والحرب: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج