شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الخال سالمين..
لا يزال المخضرمون.. الأحياء من أبناء وأحفاد أهالي جدة.. وبالأخص سكان قصبة الهنود القديمة التي ذهبت في الهدميات قبل الأخيرة للمدينة يذكرون الشارع.. أو الزقاق الذي به بيت الأصفهاني باتاريكه المعلقة في دهليزه.. حيث يقع.. في صفه كما يقولون.. دكان المضبي الأكلة التي تأكل أصابعك قدامها ووراءها وأنت غافل عن أكلها.. وذلك من لذتها وخفتها على المعدة.. كما لا ينسون أبداً ذلك الرجل الكريم السمح الطباع الخال سالمين بن المرحوم ((يسلم ويجي)).. في جلسته الوقورة متفقداً الزبائن أو الأطباق الصغيرة الأنيقة وبها أوصال المضبي.. بنظرة سعيدة صامتة.. ومتنشقاً ملء رئتيه في فرح وارتياح رائحة الشواء العابكة دخاخينه.. والتي كانت مثل المنار المخصص لاهتداء السفن إلى الميناء.. ولا مبالغة في هذا الوصف.. فقد كان القادم من القصبة شرقاً.. أو من السوق الكبير غرباً لا يتمالك نفسه حين يشم رائحة اللحم من أن يطاوع قدميه اللتين تجرانه جراً إلى مصدر الرائحة المشهية والمثيرة للجوع. فإذا هو إما على باب الدكان في انتظار دوره من شدة الزحام.. وإما على الكرسي المحنتف الصغير يلتقط بأصابعه في متعة والتذاذ حبات اللحم الصغيرة الدقيقة غامساً إياها في الطحينة الممزوجة بقليل من الخل المرشوش عليها شيء لا يكاد يبين من الفلفل الأسود والكمون.. متحاشياً الإكثار من الخبز بين الحبة والحبة بقدر الإمكان.. مستمتعاً في تلك اللحظات الهنيئة بطلعة الخال سالمين.. وبخفة يده في التقطيع والشي لا يمل الراني إليهما من تكرارهما.. سعيداً.. قبل وبعد ذلك.. بالمقابلة وبالحفاوة اللتين لا مثيل لهما في قاموس المجاملات.. فهما مختصرتان دائماً في جملتين قصيرتين كانتا أساساً طيباً وصالحاً.. فيما يرويه رواد الأدب العصري.. لاقتباس الكاتب المصري الأستاذ سلامة موسى لصيغة الأسلوب التلغرافي.. فهما.. أي الجملتان.. لا تتعديان وقت دخول الدكان كلمة ((مرحبا)) بخطف وباللهجة الحضرمية السليمة والحبيبة للقلوب.. وجملة ((في أمان الله)).. بالمطة المعهودة بتلك اللهجة إياها!!
وليس ذلك بغريب على ((بوسلوم)).. وهذه شهرة الخال سالمين.. فقد رباه والده المرحوم الخال.. يسلم ويجي.. تربية فريدة في بابها.. قامت في أساسها على قاعدة فريدة كذلك.. هي قاعدة المثل العربي القائل ((إذا كان الكلام من فضة.. فالسكوت من ذهب)). إذ يروي جلساء الخال يسلم ويجي إنه كان حريصاً على أن يشترط المحفوظ ابنه سالمين في مجلسه الليلي المعتاد.. وقد كان أيامها سالمين ((زقرا)).. أي غلاماً طيباً مرشحاً لشهرة شعبية عالية.
ففي ليلة من تلك الليالي الذهبية في سمرها.. وكان الوالد يحتبي حبوته المعتادة.. والقهوة دائرة.. والأخبار عن العملة متناقلة.. وحوداث البلاد وما جد بها سائدة، تشعب الحديث أخيراً.. والحديث ذو شجون.. حتى وصل بلسان أحد السامرين إلى ما لا يحسن بالغلمان أن يشاركوا فيه.. فضلاً عن الخوض أو العوم به.. ولكن حيوية الغلام سالمين جعلته لا يتمالك نفسه.. فبرز من ركنه.. وهرش رأسه الصغير.. وتمتم ببعض الألفاظ الممهدة لشرح معلوماته المدرسية القيمة في ذلك الموضوع.. فما أن هم الغلام بالكلام حتى بادر المرحوم الخال يسلم بفك حبوته.. وغمز بعينه.. وأشار إلى المحفوظ قائلاً في إيجاز.. وحكمة.. وتقنين جملته الخالدة.. يا وليد!! ((سالمين كل تمر.. خذ من كل حرف أوله..)) وترجمة أو حل هذه الشفرة العائلية الخاصة هي ((سكت)) بضم السين وضم الكاف وسكون التاء.. يعني ((اسكت)) أي أصمت ـ فصمت ـ أي سكت المحفوظ!!
منذ ذلك اليوم فكان لا يرى الابن سالمين إلا ساكتاً.. صامتاً.. ذلك الصمت الحكيم الذي علمته إياه جملة ((سالمين كل تمر.. خذ من كل حرف أوله)). الصمت الذي تمثل في مستقبل حياته العملية في دكان المضبى في الجملتين السالفتي الذكر ((مرحبا)) عند قدوم الزبون.. ((وفي أمان الله)) عند خروجه من الدكان.. حتى كادتا مع الأيام تكونان علماً مفرداً.. عليه!!
وبهذه المناسبة فإن للدكان نفسه.. تسمية.. وللمضبى.. عملاً ناجحاً.. قصة قصيرة تتلخص في أن بوسلوم حين بلغ رشده العائلي.. والمصطلح عليه حين يراد للشاب الاستقلال بحياته أراد أن يكون صاحب ((مبسط)) للصيرفة.. ولكن الوالد نصحة لتنويع الأعمال العائلية أن يتجه لعمل آخر.. ولما كان سالمين الشهير فيما بعد ((بأبو سلوم)) قد مل أكل اللحم المقدد والمصبر من الحنيت إلى اللخم ومتفرعاتهما وألف أكل اللحم الطازج فقد رأى بفطنته المعهودة فيه منذ كان يافعاً أن يفتح محلاً لعمل ((المضبى)) وحين قرر ذلك لم يشأ أن يطلق على محله اسم المطبخ.. أو المطعم.. أو ((المأكلة)) كما اقترح عليه هذا الاسم خاله المنقطع على خلاف عادات أهله للدراسات اللغوية والتاريخية.. بل ترك للناس تسمية محله.. فسموه بالسليقة.. وبالتسامح ((دكان بو سلوم)) وهكذا كان!!
لقد ذهبت شهرة الخال بو سلوم.. وشهرة دكانه في مدينة جدة مذهبا بعيد الشأو.. حتى وصل الأمر بكثير من دلالي الكف.. والجلابه.. وأصحاب المغالق وسواهم إلى أنهم إذا أرادوا تكريم أفضل عملائهم أو زبائنهم أو أصدقائهم الخلص في الداخل وفي الخارج أن يذهبوا بهم إلى دكان الخال بوسلوم ليتمتعوا بأكلة ((المضبي)) التي لا تماثلها أكلة.. تماماً.. تماماً.. كما يذهبون اليوم إلى أشهر الفنادق.. وإن تنوعت في الفندق أصناف الأكل.. واقتصرت على صنف واحد في دكان الخال بو سلوم.. كما اعتاد كثير من الشبان والرجال وخصوصاً ((المطاليق)) منهم أن يذهبوا في الضحى من كل نهار ليأخذ كل منهم صحنا خشبياً صغيراً من مضبي الخال.. تلذذاً به.. واعتماداً على سهولة هضمه وخفته باعتبار أنه لا يعوقهم عن تناول وجبة الغداء الدسمة!!
ذلكم هو الخال سالمين بن يسلم ويجي.. في اقتضاب مضبي رشيق.. أما سبب شهرته بالاسم المحبب له ((بو سلوم)) فإنها ترجع إلى أن والده حين زوجه من ابنة خاله.. وبعد أن علم بأنه سيصير جداً وكانت قد أدركته الشيخوخة وخشي ألا يرى حفيده أوصى ابنه سالمين أن يطلق على المولود إن كان ذكراً اسم ((سلوم)).. ومنذ ذلك اليوم.. أي يوم التوصية.. وقبل ولادة المولود أصبح الجميع لا ينادون سالمين إلا بشهرته التي ذاعت وهي ((بو سلوم)) ولقد كانت لوفاة الجد ثم الوالد بعد أن أصبح الحفيد رجل أعمال ناجح رنة أسى وحزن.. وبالأخص لبقاء مركز المضبي الثابت شاغراً لم يقم به كفء حتى اليوم!!
هذا.. ويزجي كثير من الأخوان والمعارف. وكذلك نفس أفراد العائلة السلومية الثناء العاطر لإمام الحنفي الذي كان يقوم بتحفيظ جزأي عم وتبارك لابو سلوم.. مقابل رثائه الرقيق لأشهر عصامى برز في مجال ((المضبي)) الشعبي.. فسجل لبلدته جدة أطيب الآثار. ويقول هذا الرثاء في بعض مقاطعه:
سالمين.. كل تمرا.. وخلك عاقلا
واسكت.. إذا طال الكلام الدائر
واسمع.. وخذ من كل حرف أولا
من جملتي.. وافهم.. فإنك شاطر
وإذا العويلا جادلوك.. فقل لهم
إن السكوت لدى المجالس ساتر
وإذا أردت الشغل.. فاختر صنعة
غير التي فيها الجدود.. تعافر
سالمين.. والمضبي.. بعدك أكلة
ما داقها الجيل الجديد الحاضر
ما زالت الذكرى تروح.. ولا تجي
حتى ينام بوسط قلبي راسي الخاطر
يا هل ترى.. يأتي لنا من بعدكم
من يعمل المضبي.. به نتفاخر
أم أننا.. يا بوسلوم.. ها.. كدا..
نبقى!! نعاير بعضنا ونكابر؟؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1366  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 43 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.