شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
شُلْضُمْ..
سكان محلة الساحة في المدينة المنورة مشهورون بأنهم ممن يعتنون بتدوين سير بعض الشخصيات الشعبية حتى يعرفوا.. وتتحدد طبقتهم الاجتماعية.. كما أن أهل الساحة أيضاً معروفون بتفوقهم الثقافي نوعاً ما.. وبرقتهم التي استدعت أن يتردد عنهم القول الشائع: ((أهل الساحة.. أهل العيون الدَّبَّاحة)).
ومما يرويه هؤلاء الأهالي من سكان محلة الساحة أن من الشخصيات الشعبية المتأقلمة من ثالث جد لها.. والتي انفردت في المحلة بالسمعة الطيبة الحاج صفاء الدين شلضقجي.. الشهير فيما بعد باسم ((شلضم)).. وذلك بعد أن سن في أوائل عام العشرة بعد المائة والألف من الهجرة عادة حميدة شاعت بين الأهالي هناك.. وهي قيام ربات البيوت بوضع ألواح العيش أمام دورهم.. تسهيلاً لكل عابر بأخذ لوح العيش إلى الفرن وخبزه.. ثم إعادته أمام البيت الذي حمله من أمامه. ومن المفروغ منه أن على كل ربة بيت أن تضع الأجرة المقررة حسب عدد أقراص عيش اللوح وفوق الخرقة المغطى بها العيش.. وكانت فكرة شلضم الاجتماعية قائمة على الأساسات الآتية:
أ ـ تعويد الناس على الأمانة.. فلا يكتفي أحدهم بسرقة النقود التي هي أجرة خبز العيش.
ب ـ تفرغ الرجال لأعمالهم بشتى أشكالها.
ج ـ انصراف الأولاد لمدارسهم.. بدل اشتغالهم بخبز العيش.. وبحمل ألواحه.
د ـ عدم تعطيل الفرانة.. أو انطفاء أفرانهم.
هـ ـ تمرين عابري السبيل من المجاورين والأهالي العاطلين على الخدمات الاجتماعية.
كما تعود سمعة الحاج صفاء الدين الشهير بشلضم إلى قيامه بالوراثة عن أبيه بتنسيق قانون الطبقات.. وتسجيله في ملفات البلدية.. بعد تقسيم هذه الطبقات إلى: خانه.. دانه.. فأهالي.. فمجاورين.. فشلاوية.. وذلك منعاً للاختلاط الطبقي والتداخل في الأنساب.. سواء لدى الانتساب عند اللزوم.. أو حين تقرير نوع التابعيات لدى المذاكرة عنها في القاعات.. وقبل وجود نظام التابعيات الحديث بأكثر من قرنين من الزمان.
وكان الحاج صفاء الدين الشهير بشلضم قد ورث بعض البلدان ـ أي البساتين ـ عن أبيه عن جده الثاني.. ولكنه استنكف رحمه الله أن يشتغل مزارعاً بنفسه حتى لا يتزحزح عن المرتبة المقررة لطبقته الاجتماعية.. فاتفق مع المرحوم خلف الحبرتي على القيام بشؤونها.. وكانت النتيجة أن انتهيا بعد نزاعات طويلة إلى المحكمة.. بكسر الميم ـ حسب منطوقها منهما ـ ثم إلى بيع البلدان بأبخس الأثمان.. مما دفع الحاج شلضم إلى حفظ البيت الشعري القائل:
ما حك جلدك مثل ظفرك
فتول أنت جميع أمرك
وأصبح لا يرى ولا يسمع إلا وهو يترنم بهذا البيت مما دفع الوالي التركي آنذاك إلى أن يكلفه بكتابة هذا البيت الشعري بخطه النسخ الجميل.. ووضعه في برواز ثمين.. وحين قام شلضم بذلك وذهب به إلى الوالي كرمه بأن أمر بتعليق البرواز في صدر مجلسه الرسمي دون أن يدفع له أي شيء.. فكانت تلك اللفتة وحدها من الوالي أحلى ذكريات الحاج صفاء.. فصار لا يفتأ يرددها.. ويرويها لكل من يقابله في السوق.. أو بالمسجد.. أو يزوره في البيت ليسمع الحكاية من فمه.
وبالمناسبة.. فلقد كانت هواية شلضم الكبرى هي العناية بالخطوط الجميلة.. فقد تمرن وصرف بعض المال حتى اتقن خط النسخ.. وخط الرقعة.. وصار يقتنص الأمثال والحكم ليكتبها في براويز أنيقة ثم يغلفها.. ويذهب بها إلى ((خط)) السكة الحديدية ـ الأسطسيون ـ بباب العنبرية.. لحمة طرية.. ليبعث بها هدايا جميلة إلى أصدقائه في اسطمبول وضواحيها.. حتى ذهبت تلك الهواية بكثير من قيمة البلدان التي باعها بأبخس الأثمان.. ولم يبق له إلا بضعة ((مخازن)) في أرض مهجورة لم يتقدم أحد لشرائها تلك الأيام.. حتى دارت الأيام فباعها أحد أحفاده بمبلغ باهظ‍!!
وتأكيداً لهواية الحاج صفاء الشهير بشلضم هذه.. فإن سكان الساحة أكدوا أنهم رأوه قبل أن يتوفى في مطلع عام الأربع والتسعين بعد الألف والمائة من الهجرة.. وهو يحتضن لوحة جميلة مكتوباً عليها.. الصبر جميل.
ذاكم هو الحاج صفاء الدين شلضقجي الشهير باسم ((شلضم)) أما سبب هذه التسمية فتعود إلى أن جاره المرحوم عباس أفندي.. ولا داعي لذكر اسمه الثلاثي.. زاره في إحدى الليالي.. لأجل أن يستأنس برأيه في تنظيم الرحلة التي اعتزم عباس أفندي القيام بها إلى الأناضول.. وحين سأله الحاج صفاء الدين.. هل تعرف يا عباس أفندي معنى كلمة ((شلضم)) أجاب عباس: لا!! فقال له الحاج: ولا معنى كلمة ((بلضم)) أجاب عباس برضو.. لا!! عند ذلك قال له الحاج صفاء الدين.. إذاً يجب عليك يا عباس أفندي أن تؤخر رحلتك إلى الأناضول حتى تعرف على الأقل معنى كلمة ((شلضم)).
وهنا ـ كما يذكر الراوة الثقاة ـ خرج عباس أفندي منفعلاً.. وأطلق في حالة أنفعاله على الحاج صفاء الدين شلضقجي اسم ((شلضم)) وهو الإسم الذي لصق بالمرحوم حتى آخر أيام حياته.
كما يذكر الرواة من أهل الثقة والمروءة للإنصاف وللتاريخ الذي لم يسجل.. إن عباس أفندي حين سمع بنعي شلضم قد فزع جداً.. وحزن كثيراً.. ونهنه قائلاً:
يا راحلا.. وجميل الصبر يتبعه
على الطريق.. وقد جفت مآقيه
يا شلضم الخير ملضوما بجلسته
في قاعة البيت بين الآه.. والإيه
من للعيوش.. وللألواح ناظرة
للقن دربا إلى الفران تأتيه
والناس قد تركوا العادات طيبة
لما التهوا في الذي.. يا شلض تدريه
من للخطوط.. من الرقعا مزخرفة
للنسخ من دون تزيين وتنويه
لسوف احفظ معنى شلضم.. وأرى
ماذا لدى بلضم أيضاً.. وما فيه
حتى أحوز رضا جاري.. وإن ذهبت
أيامه.. وبقيت اليوم في تيه
شلضوم!! لا تأس.. لا تحزن.. فحضرتنا
محل حضرتكم.. فيما ترجيه!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :5669  التعليقات :1
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 39 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.