شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أَبُو عَرَّامْ .. والبَشْكه
.. تؤكد الرواية الشعبية على لسان الثقاة من أهالي وسكان محلة المظلوم بمدينة جدة، إنه كان إذا خرج إلى الحلقة بعد صلاة الصبح في الشافعي كانت أنظار الموجودين والمتسوقين بها تتجه رأساً إلى ما يرتديه في يومه.. فإن كان قد وضع السجادة الصوفية المرقطة على كتفه الأيمن فمعنى ذلك أن نهارهم سينقضي في عراك وضرب وصراخ لا يهدأ.. حتى بعد منتصف الليل!!
ذلكم.. هو إبراهيم خليل الكلاش.. الشهير بأبو عرام.. والمولود ببلدة جدة في منتصف العشرينيات الهجرية.. بالعزلة ذات الدورين الكائنة غرباً أمام زاوية المظلوم نفسه ـ الزاوية التي جعل منها أهل الكار والضلال بؤرة للبدعة المستوردة ـ حيث كانت تقام فيها كل ليلة جمعة حلقة الذكر المستقبحة والمنقرضة.. يتمايل فيها الرجال الغائبون عن صوابهم.. ويغني بها الفتيان المفتونون بشبابهم.. والتي لا تنتهي إلا بإحدى الهوشات الليلية.. حين يصل إلى المحلة رجال وفتيان وعبيد من محلات اليمن والبحر والشام لحضور حلقة الذكر المعتادة!!
.. وكان والد أبو عرام.. الشيخ خليل من كبار المولعين بتلك الحلقات المجنونة يهدر بعضاً من كسبه الوفير نوعاً ما على أهلها في الولائم والسهرات كما كان حريصاً على اصطحاب ابنه إبراهيم ((أبو عرام)) في غدواته وروحاته.. فنشأ الغلام متأثراً بالبيئة.. متشبعاً بالوراثة.. ولا همَّ له إلا الاختلاط.. والتفاف الناس حواليه.. والصرف عليهم دون حساب!!
وحين توفي الشيخ خليل بعد إصابته في رأسه بضربة شون مزقر.. حل ابنه أبو عرام مكانه في مشيخة الحلقة.. وكانت أعوام مشيخته الأولى بشهادة أهل الخبرة أعوام رخاء كبير فقد ظلت فيها الأمطار تهطل بغزارة مما نتج عنه طلوع الشقلا بقلا خبيزه.. حول مقبرة امنا حواء بشكل لم يعهده الأهالي من قبل.. وتكاثر الدَّبَا والجراد.. وإذا كثر الجراد رخص اللحم.. وتوافرت الجبنة الزقزق.. والسمن البري.. والطليان الحري.. والدجاج والبرابر والديوك العشارى.. وتنوعت الخيرات.. فنعم الناس في لياليهم.. وخصوصاً بشكة أبو عرام بأكل الجراد مقلياً مملحاً وموضوعاً في التباسي تحف بها أحقاق الدقة المصنوعة من الكمون والفلفل الأسود والملح الأبيض يضاف إليها قليل من النعناع أو ملح البيض.. وتعتبر تباسي الجراد بمثابة ((النُّقُل)) يتسلون بها لحين حلول موعد العشاء بفتح العين.
كما نعموا في وجبة الصباح بأكل التمرة المخلوطة بالبيض أو المصنوعة من البيض المخلوط بالسكر.. أو بالجبنة الزقزق بالسكر.. وذلك عدا أطباق المعصوب والمطبق والمقادم بالقَطْفةَ.. وبجوارها أطباق الفول تغطيها طبقات من السمن البري.
أما وجبات الغداء والعشاء الرئيسية فكانت نماذج غنية باللحوم الحمراء والبيضاء بين سلات ومضبي وندى أوزربيان.. أو صيادية حمراء.. أو سليق مع العبيلة التي يصر أبو عرام على توزيعها في زبادي صغيرة مع انفراده هو بقدر صغير منها خاص به.. وقد يصطفى من يشاركه فيه أحياناً من بعض الأصفياء في بعض الليالي المقررة!!
وهكذا أخذ أبو عرام يفيض على من حوله دون منٍّ أو تقتير.. بل إن أياديه كانت تمتد إلى كيس نقوده باستمرار.. ليدفع لهذا ولذلك من أهل محلته ما يطلب لفك ضائقة.. أو تكملة لنقص.. أو سداً لموجب.. كما أن هذه الأيادي قد طالت فتعدت أهل المحلة لكل قاصد إليها وإليه من المحلات الأخرى داخل سور جدَّة.. أو خارجه من سكان النزلة اليمانية.. والتعالبة.. والرويسين الأعلى والأدنى.. ومحلة بني مالك ـ أو الملك ـ كما كان يدللها ساكنوها!!
وتدور الأيام.. ويشح ماء السماء.. وتقل واردات الحلقة بما في ذلك الحطب والفحم والحشيش العتري.. والبرسيم.. فتنكمش واردات أبو عرام ولكنه لا يضيق بذلك.. ولا يغير عادة من عادات كرمه الدائم المعتاد.. مردداً في سره ولنفسه المثل الشعبي الدارج: ((مين وَلَّفَ الناس بعادة سموه أبو العوايد)) ولكنه إزاء وقفة الحال هذه كما سماها.. يختلي في إحدى الليالي بأحد سماسرة العقار سراً وتمتد يده إلى وثيقة العزلة الصغيرة فيبيعها.. ثم يألف البيع.. لأنه يكره الرهن.. فيبيع القراريط التي له في بعض بيوت الحي.. حتى ينتهي به الأمر أخيراً إلى بيع العزلة الكبيرة سكناه.. شرط سكناه بها طول حياته!!
ولكن فقيد الكرم والمروءات والبحبحة.. أبو عرام.. لم يتمتع بمزية هذا الشرط.. إذ اختطفه الموت في ليلة سوداء في أيام موسم الحج.. وقبل الخُلّيف بحوالي عشرين يوماً.. وذلك عقب حفلة عشاء فريدة في بابها.. وكان اختطافه مفاجئاً حتى إن من سمعوا بنبأ وفاته في النهار لم يصدقوا ذلك حتى رأوا باعينهم النعش خارجاً من مسجد الشافعي.. وقد ازدحم سوق الجامع.. فسوق البدو بالمشيعين من جميع المحلات في مدينة جدة.. وخارجها.
ذلكم هو إبراهيم خليل الكلاش الشهير بابو عرام في إيجاز.. ودون مغالاة.. أو رتوش.. أما سبب اطلاق كلمة ((أبو عرام)) الذائعة الصيت.. والمطلقة حتى يومنا هذا على كل ((فنجري)) أَلِفَ البذل والعطاء والبحبحة على نفسه وعلى من حوله.. وعلى كل قاصد إليه.. فهو ذلك الصنيع الذي كان يفعله أبو عرام طيلة حياته لا فرق بين سرائه وضرائه مما يؤكد.. أن الجود من العود.. لا فقط من الموجود..
وكالعادة الأخوانية فقد رثاه بعض من قدروا قيمته وشهرته.. أو نالوا من نعمته وفضله ولكن ظل أحسن رثاء قيل فيه هو رثاء صديقه الحميم زنقر الصغير الشهير بأبو لسان.. وكان ذلك بعد أن غرزت له أرملة المرحوم أبو عرام الست ((عزه)) مبلغاً محترماً من الريالات الفضية أرسلته إليه مع خادمها حين رأته يتجهز للسفر من منى أيام الشقادف بعد رجمه للشيطان.. فأنشد قائلاً:
حيتك عزة بعد الحج وانصرفت
فحي.. ويحك.. من حياك يا جمل
فتلك زوجة من عاش الحياة لنا
عبد المضاليم.. من تزهو به الحلل
الأريحي أبو عرام.. مصنفه
على الكتوف به في اليوم ننشغل
الفاتح البيت للضيفان ما خرجوا
إلا على البطن منه.. بعد أن دخلوا
زحفاً!! فقد نغنغوا من فيض صفرته
طبعاً.. فقد بشموا من كثر ما أكلوا
والفارد الكيس للأخوان يكرمهم
صرفاً.. وقبضاً.. فلا مَنٌّ.. ولا زعل
يا ناس.. ليس أبو عرام مثلكمو
أو مثل جدي.. ففيه يضرب المثل
قد باع خير قراريط.. بعزلته
وقال.. يا اللا.. فلا عاشت لنا العزل
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2152  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 38 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج