شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
( 32 )
بالطريق...
ركبنا السيارة في المساء الكئيب لم تبدد وحشته حركات الاستعداد تنظيماً للحقائب وتنقلاً معها.. ولم تذهب بها زيارات المودعين،و الباقين منهم معنا حتى لحظة السفر الأخيرة.. وقد كانوا يمثِّلون أكثر ما يمثلون في دخيلة نفوسنا صفوف المعزين.. يتلذذون بدراسة المصاب في غيرهم، ويتمرّسون بأعراض الداء بسواهم ويتطاولون بنجاتهم ولو مؤقّتاً ـ من هذا "الكنس" الإجباري أو المختار. وإن انطوى كل ذلك في عبارات التوديع وتحميل السلام والتحايا للأهل والمعارف، والإخوان..
ودرجت بنا بين شوارع مألوفة، ومناظر محبوبة. حتى إذا توسطنا طريق السويس ونظرنا، فعرفنا أن البدر مخسوف.. أيقنا أنه يشاركنا الأسى والأسف.. وهو الذي طالما شاركنا الفرح والمتعة، والأنس على ضفاف النيل المقمر.. فكان خسوفه محل تعليق، وموضع غرابة وإعجاب. وسبيل إدعاء بعضنا الكرامة على كساد سوقها المهجور!!
وحتى في الطريق الصحراوي للسويس، وحين نزولنا للاستراحة، وجدنا "الأجنبي" كاسب رزق، ومصارع كسب.. فهذا المقصف العامر بالمأكول والمشروب في هذا الموضع، دليل حياة وشارة حيوية لغير المصري.. وإن كان لأهله وفي سرة وطنه..
ولعلها النزعة الفارقة بين الشرقي والغربي عامة.. يركن الأول منهما إلى الدعة والنوم بين أحضان الفاقة والأهل. وعلى فرق من الوحشة.. ولو كان في أتعس الأحوال.. وبين أنياب "بعبع" التبطل القاتل، وعدم المساعدة العامة له على الحياة.. ويغامر الثاني في جلد وصبر، وغرس حياة في سهولة وطبيعة تامين.. مع حسن المؤازرة له في كل حين من بنى جنسه وسواهم، وتشجيع له على مغالبة الحياة لاستهدافه المغالبة.. أما الأول فالتثبيط نصيبه والتسخيف للإقدام على مجهول غير مضمون، حظّه الموفور..
ولقد بدأ الانغماس العملي كلما خطونا، أو خطت أو قطعت بنا السيارة كيلو متراً جديداً.. في حركات الوطن تهيؤاً وارتقاباً لجديد.. فقد أولينا ظهورنا لمصر.. فكانت حرارة ذكرى في الدماء والخواطر. تتخذ مقرّها الاستعراضي في الذهن في هدوء، وبرود واطمئنان.. وهكذا تعود الحياة حركة. وانطواء على كل شيء إلى همود واجترار.. ومعنى وتذكر..
أيتها النفوس ما أقدرك على لبوس كل حالة.. انسياقاً مع واقع متأتّي، والوقوف عند حال مطلوب..
وما أيسر ذخيرتك عزاء في النفس.. وأملاً واسعاً متشكِّلاً في الحياة سعة وأشكالاً.. متواترين..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :818  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 34 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.