شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
( 30 )
نزهة...
نزلنا ـ من الترمواي ـ في محطة كوبري بديعة أولاً، وببا ثانيا.. أو كوبري الأعمى، أو كوبري الإنجليز.. أو الكوبري.. وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى ـ كما يقولون ـ فقد نازع التسمية الرسمية والعامة ثباتاً وتلاشياً.. يريدها خالصة له وحده.. الفن، والتاريخ، والقوة، والطبيعة المجرّدة عن كل ذلك.
وكنا في طريقنا إلى أجمل مكان شعريّ نابض بالفتنة، والحياة، والسحر، إلى كوبري قصر النيل للرياضة والنزهة، ثم لاختيار المقعد المعتاد قريباً من نادي التجديف الملكي وأمامه.. للإطلال على النيل، ومشاهدة دنيا الطب، على الضفاف البعيدة، ودنيا القلوب والعواطف على المقاعد المجاورة.. القريبة منا..
والجلسة هناك، هدوء عصب، ووحي نفس، ودغدغة فكر.. وراحة للجسم المرهق من الحركة لغاية.. في ترام. أو أوتوبيس، أو تاكسي حتى.. فلن يعفيك الزحام، وضوضاؤه من التأثّر بها ولو عن طريق الإحساس العصبي الدائم بوجودها..
والمناظر الطبيعية غذاء للنفوس والحس لا ترهق الجيب، ولا تدمي القلب، أو تذيب الجسم.. بل إنها صقل وتهذيب، ودفع مضطرد إلى الاستزادة من جمالها وتنويع أسبابه.. فقد طاب لنا استئجار "فلوكه" للتجول بها في النهر الكريم ذهاباً وإياباً.. في سكون العابد، وسبحة الصوفي، وذهول الشاعر..
فكان لنا ما طاب.. وكانت المتعة أكمل بهذا الفلائكي الظريف.. مستودع أقاصيص، ومعلومات.. وخازن أسرار وحوادث.. وعصفور تغريد وتقليد.. بعد أن كان مجادلاً بارعاً في تحديد الأجرة وزهادتها في ذاتها، وإكرامه لنا بجعلها كذلك.. وإن كانت هذه الـ "كذلك" قد هبطت إلى الثلث بقدرة قادر..
وقد رفض بشدة اقتراحنا عليه، تعليق لافتة كبيرة بأعلى الشراع يتضمّن أنه لا "فصال" في الأجر.. مؤكِّداً أن هذه طبائع الخواجات النتنة.. فالإنسان ذو ظروف وأمزجة، وضرورات وأهواء.. والقيد حد للحركة الذهنية، والنفسية، وحلاوة المفاجأة فيها طرداً أو عكساً.. ثم أنه ليس صاحب بضاعة جامدة. ولكنه تاجر معاني وأذواق، وليس صاحب وقت محدد بدوام وانشغال. ولكنه مالك زمن، وطالب رزق لم يضيق الله فيهما عليه.. ولكل وجهة هو موليها..
لقد عدنا إلى المنزل في وقت متأخر في ذاته، مبكر بالنسبة للعادة.. نطلب العشاء في لذة، وشهية، وانتعاش.. ونطاوع النوم في خدر واستسلام.. فلا صداع في الرأس، أو احمرار في الجفن.. ولا خمول في الجسم المكدود.. أو تعكير في الدم والذهن..
أتيها المعاني تقتلها المادة حركة في الدم، ورعشة في الجسم، وإرواء للحيوان ويقضي عليها المسخ استجابة للطمع في الطمع.. ونزولاً على سعار التكالب للتكالب الأصم الجامد.. ما أجملك في النفوس، وما أروع مقامك في دنيا الإنسانية، وكون الأكوان.. وما أغفلنا عنك بين زحام العادة.. وجمود التقليد..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :985  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 32 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج