شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
( 17 )
مقارنة...
قصدنا الإسكندرية، وقد ركبنا "الفسطاط" طائرة مصرية.. وقائدها ومساعده مصريان.. وسرنا هذا جداً كما راقنا كثيراً أن تتخذ شركة مصر نظاماً، وترتيباً لا يقلاّن عن قواعد أية شركة أجنبية أخرى.
وذكرنا طلعت حرب باشا الرجل المصري المسلم العظيم وأعجبنا به.. وبمشاريعه من جديد، وربما كان لجدة هذا الإعجاب وتضخمه أصل راسخ في نفوسنا.. ذلك أن الرجل "حجازي الأصل" من قبيلة "حرب" فما يضير النفس والمفلسة على الأخص أن تتيه أحياناً بملايين جارجار خال خال صاحبها البعيد!. وكانت المناظر رائعة حقاً. فالأرض مربعات خضراء متناسقة.. وخطوط مائية متعرّجة.. والطبيعة الصاحية المشرقة نهاية في الحسن والفتنة.. وهبطنا المطار. وذهبت بنا السيارة إلى مقر الشركة، بقلب البلدة ومن هناك استأجرنا "تاكسياً" للوصول إلى مقصدنا..
وللتاكسيات وسائقيها في الإسكندرية شارة وتقليد خاصان يمتازان بهما.. عن التاكسيات وسائقيها بالقاهرة أو السويس.. فهم حييون خجلون بالنسبة لسائقي القاهرة. وصفاقتهم المبرقعة بكثير من الأناقة والرشاقة، والاتيكيت.. ولعلّ هذا كان بدء المقابلة بين الإسكندراني والقاهري مما أبدته المناسبات المتتالية.. وقد ذهبنا إلى أفخم فندق في الثغر الضاحك "سيسيل" ولعلّ ما هيّأ لنا حسن الاستقبال، ومراعاة طلباتنا بحماسة وارتياح سبق نزول حجازين به قبل أسبوع من مجيئنا كانوا مثال الاحترام لنفوسهم عطاء وسلوكاً. فالمظنون به النقص أحرص على الكمال كما هي القاعدة الأساسية..
واخترنا ـ بعد تفقّد بعض غرفه فقد كان الموسم لا يزال على الأبواب ـ غرفة واسعة مطلّة على البحر من جانب.. وعلى تمثال الزعيم الخالد الذكر سعد زغلول وحديقة من جانبٍ آخر..
والهدوء، والرقة في الجو. وفي الإنسانية. وفي المحيط العام. ميزة هذا الثغر الحيي الرائق، وسكانه الذين لم يذهب الاختلاط بما في طبائعهم الأصيلة من التشبث بأصولها.. وإن كانت الحرارة ـ على كذب باعثها، والرشاقة على هول مدلولها ـ سحر القاهرة والقاهريين الجذاب..
وهنا مفرق الطريقين الذي ربما بلغ في تحديده معنى عاماً لكل ما في الحياة.. الحديث أو الأثر الكريم ـ بصرف النظر عن المادة المقال فيها ـ.. "اللذة في الحار والبركة في البارد.." ولا ارتاب لحظة في أن الغالبية العظمى من الناس في هذه الحياة طلاب لذة حارة. ولو كانت خاطفة، كعادتها ومهما كلفت.. لا بركة مستديمة ولو خلت من ضروب التكاليف وسلمت من صنوف المهالك.
ولقد خفنا في ليلتنا الأولى.. فما نكاد نلج الصالة حتى نطلب الفرار منها.. أو الكازينو حتى ننتقل لسواه، أو نسأل عن فيلم معروض إلا ونشيح عنه.. فقد أفسدتنا القاهرة بكمالها المتقاصر عنه الثغر والتي لما تنتقل معنا، ولا شك، وهكذا:
فمن ركب الثور بعد الجوا
د، أنكر أظلافه والغبب
وزارنا ضيقاً ما رأيناه من آثار الإضراب الذي لا شك في أن استدامة أسبابه راجعة إلى حوادث الاصطدام التي سمعنا عنها قريباً منا والتي لمسنا آثارها في تكتل بعض جنود البوليس المصري أمام الفندق بداعي نزول بعض الجنود الإنجليزيين فيه.. والجنود الإنجليز على مقربة منه في الكازينو المجاور.. ولكننا مع ذلك نعمنا برقة الجو ومنظر البحر، ومرأى البلاج رغم وحشته واستخفافه بقلة زواره.. وباندياح طبيعتنا مع أهل البلدة الذين لا تخطئ الصميمية غالباً في معاملاتهم.. لكني لا زلت في صف أهل اللذة الحارة.. فهم مع قسوة هذا القانون الثقيل لهم عذرهم. فالعاصميون مجبورون قسراً على اصطناع الأساليب العامة.. ومجاراة ضروراتها والانشغال بزحمة الحياة ويومياتها عن التمسّك الفردي خلقاً وتشبّثاً به، وتعصباً له.
وإلاّ كانت الفردية نصيب الفرد المجتوى. فالتقليد وسيلة لازمة، وإلغاء الفردية في سبيل المجموع ضرورة حياة واتصال. وليس التعارف على عادات، وطبائع وضرورات بين العشرة وفي كيلو متر ممكن التحديد بين المائة، وفي العشرة كيلوات بمسلك أصيل ثابت..
وقد شعرنا بالفارق حتى في ذواتنا نحن بيننا كمصطنعين ـ بحكم العادة القريبة ـ الأسلوب القاهري، وبين من نحن بينهم، وبمداه امتياز حياة، وتذوق وتفوق فيه، والغرور، والتعصّب له سبيل ممهد لتطويع الحقائق، ومفاهيمها لمنهاجه.
وهكذا قررنا العودة بعد يومين إلى "الحمام الفائر" بدل هذا البلاج البارد.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :812  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 19 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج