تمهيد |
زرت مصر عام 1358 هجرية.. وقضيت بها حوالي شهرين.. كما زرتها عام 1365 هجرية.. وقضيت بها حوالي شهرين ونصف شهر.. فعرفتها قبل الحرب.. وأنكرتها بعدها.. في كثير وكثير.. |
ولقد انطوت الزيارة الأولى، على قدم العهد بها، في العصب والذهن، أثراً ومعنى مختزنين فيهما ـ وجاءت الزيارة الثانية.. فكانت وعياً مفكراً.. وتسجيلاً يومياً في غير مواظبة يومية عليه.. |
هذه اليوميات المصرية ـ أو المصريات اليومية ـ حديث مبوب عن المشاهدات المادية والمعنوية، وأثرهما ومدلولاتهما.. واتجاهاتهما.. جمع فيما جمع: بين الأدب؛ لغة في بساطة ـ والفن؛ روحاً في تواضع ـ والفلسفة؛ استنباطاً في تمهل ـ والانفعال، حركة في الذهن، وثورة في الدم ـ وتحليلاً في العقل.. بعد الهضم. والتجشؤ. والاسترخاء.. رغم تسجيله عفو الساعة في ساعته.. وبقائه كذلك ـ فهو اليوم.. هو هو المسطور في حينه دون زيادة أو نقصان.. |
ولست مريداً بما قلت؛ التقريظ، أو الإشارة ـ ولا أقول هذا تواضعاً مع إيماني القوي أو الضعيف أو التقليدي.. بأن "من تواضع لله رفعه!" ولا قناعة بتقديمه نفسه بنفسه.. على كفري الكامل، أو الناقص أو التجريبي بمبدأ "القناعة كنز لا يفنى!" وأنا القائل فيها من أبيات تبتدئ بالبيت: |
قالوا: القناعة كنز |
قد طاب في النفس غرسا |
|
وتنتهي ـ بعد أبيات ليس هنا محل سردها بالطبع ـ بالبيت: |
ما كل من كان يرضى |
بأن يكون الأخسَّا.. |
|
ولكني أريد إعطاء القارئ رؤوس "مواصفات!".. لا رؤوس أو أذناب أقلام.. |
واليوميات هذه.. من مصر وللمصريين.. فكلها دراسة لها ولهم ـ من غريب عنها وعنهم ـ إن كانت الإقامة من حجازي بمصر غربة.. ولو اعتباراً ـ وعرض جزئي لبعض حياتها وحياتهم. كما هي في ذهن أجنبي. إن كانت الأجنبية تعريفاً لمن توطن خارج مصر ـ ولو كان من بلد عربي، هو مأوى العروبة ومهدها العرقي والديني قديماً ـ ومأرزها بعد طول العمر في المستقبل البعيد أو القريب. |
كما أنها تطفل حديث ـ على مائدتها رغم عموميتها، فهي محدودة المدعويين الرسميين الذين يحق لهم وحدهم الخوض في تذوق أصناف طعامها ـ وتعداد مزاياه.. أو التنديد بمساوئه.. وبعثرة عامة لسكن محبوب. لا يجوز تشويش نظامه. أو تقليب أثاثه وما فيه إلا لطارق مألوف. زرقة في العين. ولكنه في النطق. وطولاً في اللسان. وإن كان الباب مفتوحاً على مصراعيه لكل من هب ودبّ. |
ثم هي، صرخة الطفل الفأفاء ـ في وجه أبيه الرجل أو أخيه الرشيد. تطلقها المفاجأة لشذوذ. مستغرب، أو التنبيه لخطر غير ملحوظ.. أو الاستنكار لانحراف مقصود أو مسكوت عنه.. وترسلها الفرحة لجديد مدهش.. أو لدهشة من روعة بالغة البهر.. ومن عظمة عليا.. وقد يعبأ أو لا يعباً بها.. الرجل أو الأخ الرشيد.. فيقدرها أو يستخفها في ذلاقة اللسن الحاذق.. وهدوء العالم المكين.. وجرأة الصائل الجسور، واطمئنان الواثق من موضع قدميه.. واستخفاف المجرب وعراقة الأصيل.. وذوقية المترف.. وطبيعية ذي الماضي العريق. |
والأمر سيان.. فهي لم تكتب إلا استجابة لشعور شخصي محض لم يراع فيه إلا إرضاء النزعة الأدبية دون أي اعتبار.. ولكنها تنشر اليوم نزولاً على الدافع الهدفي بنفس الأديب.. وتوجيهاً لمكنون مظنون فيه النفع، والتجاوب الفني المشترك. |
والعروبة اليوم.. دم ولحم وقرابة.. ومشاركة سراء وضراء إن فاتها التعارف الوثيق ـ وشد الأزر. لتباين السحنة الذهنية أو التربوية ـ أو لانشغال الكل بزحمة يومه وغده الخاصين.. فلن تفوتها المشاركة الأدبية المتبادلة تقريباً للهدف الواحد، وتنمية للآصرة الضرورية لاتحاد اللسان وإن تعددت اللهجات.. ووحدة العصبية وإن تباعدت المنازل ـ أو للمزاملة الإنسانية المطلقة.. إن انعدام هذا الكل.. وتحددت المواطن والأجواء. |
ومصر عزيزة على كل عربي، أين كان... حبيبة إليه أياً كان.. في عزها عزه وفي سلامتها سلامته واطمئنانه ـ وفي علوها فخره وسموقه. فالملاحظة عليها منه.. غيرة على أثير مرموق.. والإشارة إلى نقص متخيل أو مظنون أو مفروض فيه.. إيثار لكمالها. |
فهي بمكانة رب العائلة يحف به حتى صغار أفرادها ـ إعجاباً، وإيماناً، وبحلقة، تتناول حتى ذرة الغبار العالقة بهندامه.. للبراءة منها.. نشدان مثالية لازمة له.. |
وبعد.. فقد تم أو كاد يتم، عام كامل منذ سجلت فيه هذه اليوميات المرتجلة.. لحق فيه الحوادث والمعاني والمناسبات بمصر ـ التبدل الجزئي أو الكامل ـ والاختلاف الهين أو الكبير.. والتطور البطيء أو السريع ـ وإن كان كل ذلك ـ لحسن الحظ ومع حمد الله تعالى ـ للأعلى المنشود. |
فليكن ـ والحالة كذلك ـ بعض ما خالف بعض ما فيها.. إشارة إلى ماض عابر.. ورمزاً لروح الزمن السائر بروح الحي المتحرك فيه.. دائماً للأمام.. والله من وراء القصد. |
|
|
مكة المكرّمة / 30/5/1366 هجرية |
|
|
|