(( كلمة المحتفى به الأستاذ أحمد الشيباني ))
|
ثم تحدث المحتفى به فقال: |
- لا أعرف عمَّ ينبغي أن أحدثكم؟ بادئ ذي بدء أود أن أشكر الأساتذة بما غمروني فيه من لطف وكرم، وبخاصة الأستاذ أمين العبد الله، والأخ العزيز إياد مدني، وصديقي العزيز - أيضاً - محمد صلاح الدين، والحق - وأقولها بعيداً عن كل تواضع.. بل التصاقاً بالحقيقة - هو أنني لست بشاعر، ولست بناقد، ولست بفيلسوف، ولست بمفكر.. ذاك المفكر..، ولذلك حاولت لفترة ثلاثة أشهر أن أؤجل دعوة الأخ العزيز عبد المقصود خوجه، فما أدري عن أي شيء أحدثكم؟ |
- أريد فقط فيما يتعلق بما أورده الأستاذ إياد مدني، وهو الأحداث التي عصفت في العالم العربي، لقد شاهدت بعضها.. وإن من قرأ بعض مقالاتي يلمس أنني كنت شديد الهجوم على العلمانية، وآخر مقالين لي قلت: إن هناك العلمانية الحسية التي تنتهي بالمرء إلى الإلحاد، وهناك العلمانية الحديثة التي تنتهي بالإنسان إلى الإيمان، وقلت: إن العلوم - حالياً - تسير في نهج العلمانية الحديثة، فعلمانية نيوتن بصورة خاصة، والعلمانية التي بلغت أوجها في القرن التاسع عشر.. انهارت وانتهت، وأطلت علينا علمانية جديدة.. وهي علمانية ماكس بلانج، علمانية أينشتين، علمانية هايتن برج، علمانية نيس بوردو. |
- هذه العلمانية التي أقرت - أخيراً - أن العالم يتشكل على صورة العقل، وأن العقل لم يعد يتشكل على صورة العالم كما قيل حتى القرن التاسع عشر؛ والحق أن الإنسانية تسير الآن - والعلوم بصورة خاصة - بخُطاً سريعة نحو الإيمان بالله، خذوا أينشتين مثلاً: رجل يعبر عن إيمانه بصورة عجيبة؛ وخذوا ماكس بلانج..، وستعرفون عنهما نظريتين هامتين في العالم: إحداهما نظرية النسبية العامة والنسبية الخاصة لآينشتين؛ والأخرى نظرية الكوانتم وهوالكم لـ ماكس بلانج ويقول فيها "إنَّ معطيات العلم الآن تتعانق والعقائد الدينية وسواها". |
- لذلك أعتقد إذا قدر لنا - نحن الأمة العربية - أن نستعيد وحدتنا وأن نستعيد كياننا.. فعلينا أن نستمسك بالإسلام، وأن نستخرج من الإسلام - وبخاصةٍ من القرآن الكريم - تلك الأيدلوجية التي تحدد لنا النظام الَّذي ينبغي أن نتبعه؛ هناك كثيرون من الناس يقولون: إن الدين لله والوطن للجميع؛ ويجب أن لا نمزج الدين بالنظام؛ هذا قول ينطبق على المسيحية؛ فإذا جردت الإسلام من مفهوم النظام - أيضاً - لم يعد هناك إسلام. |
- وأول دولة إسلامية قامت - كما نعرف - هي الدولة التي أنشأها الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا أردنا - حقاً - أن نستعيد قوتنا وزخومنا، علينا أن نستمسك برسالتنا. إن كل أمة ذات حضارة لا يمكن أن تتصف بالأمة الحضارية إذا لم تكن لها رسالة.. فالرسالة جد هامة، خذوا معظم الأيدلوجيات - الآن - انهارت، وكان آخر إيدلوجية انهارت هي الماركسية؛ وجاءنا "فكوياما" هذا الياباني، ويقول: لقد انتهى التاريخ وأصبحت الأيدلوجية الليبرالية هي الحل والنهاية؛ ولكن الأيدلوجية الليبرالية - حتى الآن - لم تستطع أن تحل لا المشاكل في الولايات المتحدة ولا المشاكل في بريطانيا، ولا المشاكل في أي بلد آخر. |
- وإذا تأملنا لماذا سقطت كافة الأيدلوجيات؟ نرى أن سبب سقوطها - المباشر - هو: أن الخيط الَّذي يربطها بالإيمان بالله لم يكن له وجود ولقد انقطع؛ والحق أن أول شيء أقوله هو: مهاجمة الحداثة التي تذهب بنا إلى الإلحاد، الحداثة - كما نعلم - خلقت رد فعل في أوروبا على عصر التنوير ومكوناته، أي على العقل الحسي الَّذي لا يمكن أن يبلغ بالإنسان الإيمان، وجاءت الرومانتيكية، وجاءت الحركة الرمزية لتفتح باب الإيمان واسعاً، ثم استعادت المادية سلطتها وصولتها؛ وفي القرن التاسع عشر أصبح هناك عقيدة: أن العلم الحسي يعني العلم السابق لآينشتين السابق لهايسن برج السابق لسيربور هو الَّذي يحل المشاكل كلها.. فماذا كان؟ كان أنَّ الرومانسية والرومانتيكية والرمزية ضمرت واختفت وحلّ محلها البرنسيه، وهي مذهب مادي في الأدب؛ وحل محلهما المذهب الواقعي أيضاً. |
- ولكن حتى إذا أخذنا ماركس - مثلاً - ماركس ليميز اشتراكيته عن غير الاشتراكيات.. سماها الاشتراكية العلمية، ومن المؤسف أننا نحن بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصةً الأفراد العسكريين في بعض البلدان العربية - ولنسمها سوريا والعراق ومصر - اتجهت نحو العلمانية ذات الاتجاه الأعمى، فقد خرج الاتحاد السوفيتي من الحرب منتصراً وأنشأ تلك الدولة الكبرى، وجعل كل العالم تنظر إليه - خاصةً العالم الثالث - بأعين مبهورة؛ وظنوا أن الماركسية هي التي كانت السبب في انتصار الاتحاد. |
- فكانت الانقلابات العسكرية والثورات - التي في الواقع كانت حركات هوجاء وكان محركها أيادٍ أجنبية - أرادت أن تعطل اليقظة الإسلامية في الأمة العربية، فكانت سلسلة انقلابات في سوريا، وكان الانقلاب في مصر، وكان الانقلاب في ليبيا، وكان الانقلاب في الجزائر، وكان الانقلاب في العراق؛ ولننظر إلى الثورات، الثورة في روسيا.. الثورة بعد 75 سنة تعود روسيا لتكفر بكل ما جاءت به الماركسية، حتى ليقول أحدهم: إن أطول الطرق إلى الرأسمالية هي الاشتراكية، تبدأ من الاشتراكية وتنتهي إلى الرأسمالية بالذات. |
- فالعالم العربي الآن بدأ - والحمد لله - يستعيد رشده وبدأ يتحسس طريقه، وذلك لأنه بدأ يستعيد رسالته الحضارية الممثلة في الواقع في الإسلام؛ نحن ليست لنا أي رسالة سوى الإسلام؛ والإسلام - في الواقع - أخذ أفضل ما في الديانتين اليهودية والمسيحية.. بالإضافة إلى أشياء أخرى، فنحن في الواقع - يا إخواني - إذا أردنا - حقاً - أن نستعيد قوتنا وأن نستعيد فاعليتنا في هذا العصر الجديد، الَّذي يتجه فيه العالم نحو إقامة نظام عالمي جديد، صدقوني إن ما يتحدثون عنه في الغرب عن نظام عالمي جديد ليس حقيقة إطلاقاً ولم يقم حتى الآن نظام عالمي جديد. |
- هناك نظام يقوم على قطب إيحادي بعد أن كانت هناك قطبية ثنائية، فإذا كان العالم الآن بمسيس الحاجة إلى أيدلوجية جديدة - لأن كافة الأيدلوجيات التي انبثقت من الفلسفة المادية قد سقطت كلها وكان آخرها الماركسية - والعالم عندما يقول إنه يبحث الآن عن نظام عالمي جديد - في الواقع - هو يبحث عن أيدلوجية جديدة، والعالم الغربي - كما نعلم - لا يمكن أن يصل إلى هذه الأيدلوجية، لأن هناك فقط منبعاً واحداً هو الإسلام يمكنه إيجاد أيدلوجية جديدة، ولكن لماذا سقطت أيدلوجية الغرب؟ لأنها تعاملت فقط مع جسد الإنسان ولم تتعامل مع روحه، أما الإسلام فجاء وأخذ يوفق بين نوازع الجسد وأشواق الروح؛ من هنا أنا برأي أن الإسلام هو الدين الوحيد القادر على تزويد العالم بأيدلوجية جيدة تحل كل المشاكل؛ الإسلام مثل القماش الرائع الممتاز؛ بحاجة الآن إلى ذاك الخياط الَّذي يفصل منه بدلة على جسد الأمة. |
- أمَّا فيما يتعلق بنشاطاتي - أو بأعمالي الفكرية - فأنا اتجهت إلى الفلسفة دون أن أدري لماذا؟ هل هو ميل أو فطرة؟ وحاولت - في الواقع - أن أترجم أفضل الكتب المئة، حيث اختصروا أفضل كتب صدرت في الحضارة والتاريخ إلى مئة كتاب ومنها كان نقد العقل المجرد ومنها كان تدهور الغرب أو تدهور الحضارة الغربية، لذلك أنا أقدمت على ترجمتها وكانت خطتي - دائماً - إذا أردت أن أفهم شيئاً أو أقرأ شيئاً كنت أقدم على ترجمته. |
- والواقع - لا أكتمكم - أنا من الَّذين عانوا هذه الأعاصير التي عصفت في العالم العربي والتي بدأت بانقلاب حسني الزعيم، والآن أستطيع أن أقول لكم شيئاً، وهو: لقد كنت من الَّذين عرفوا بأن حسني الزعيم يريد أن يقوم بالانقلاب، وكنت في ذلك الوقت عضواً عاملاً في حزب فيصل حسن المسمى: "الحزب التعاوني الاشتراكي" وذهبنا إلى شكري القوتلي (رحمه الله) وأنذرناه وحذرناه؛ فلم يستجب شكري القوتلي لشيء بسيط، كان رئيس ديوانه اسمه محسن برازي، ومحسن برازي كان كردياً وحسني الزعيم كردياً، وكانت العاصفة أو العنصرية الكردية جعلت محسن برازي يحمي حسني الزعيم؛ وأخيراً وجدنا ألاَّ سبيل إلاَّ بافتعال جرم ضد حسني الزعيم. |
- وكان حسني الزعيم إبان وزارة جميل مردم، حين أعلنت الأحكام العرفية ويتولى وظيفة القائد العام في الجيش.. وهو الحاكم العسكري، واعتقل عدداً من الناس وكنت من جملة الَّذين اعتقلوا؛ فقام فيصل علي وألقى خطاباً عنيفاً ضد حسني الزعيم تناول شخصه، فكلف حسني الزعيم إبراهيم الحسيني وكان يومها مدير الشرطة العسكرية - بأن يراقب مكتب فيصل علي - واختار إبراهيم الحسيني أخاه عصام الحسيني بمراقبة هذا المكتب؛ فجاء فيصل علي وأتى بقنبلة، واتفق مع بعض أعضاء الحزب على أنه حالما تسمعون الانفجار ألقوا القبض على عصام الحسيني وغيره؛ وقولوا إنه هو الَّذي ألقى القنبلة. |
- وألقى فيصل قنبلة على المكتب وألقي القبض على عصام الحسيني؛ وأحضر الحسيني وكان موظفاً عند أخيه إبراهيم الحسيني، رفض شكري القوتلي اعتقال حسني الزعيم أو تقديمه للمحاكمة، لأن حالة الحرب لا تزال قائمة بين سوريا وإسرائيل؛ وذهب حسني الزعيم إلى شكري ونفى كل تهمة انقلاب.. وصدقه؛ ولكن لم يمض أكثر من شهرين حتى قام حسني الزعيم بانقلابه؛ وكان المحرض الأساسي على هذا الانقلاب أكرم الحوراني الَّذي يعيش في العراق - حالياً - لاجئاً. |
- وقام حسني الزعيم باعتقال كثير من الناس، ولقد هربت مع الَّذين هربوا إلى شرق الأردن، واعتقل فيصل علي وانتظرت حتى قام سامي الحناوي بانقلابه على حسني الزعيم وقتله، وتعاون مع سامي الحناوي السوريون القوميون، لأن حسني الزعيم قام بتسليم أنطون سعادة إلى لبنان.. وجرى إعدام أنطون سعادة؛ وقد قام باعتقال حسني الزعيم ضابطان مرموقان في سلاح المدرعات، أحدهما اسمه: أمين أبو عساف، والآخر اسمه: فضل الله منصور. |
- وبعد ذلك أخذت الانقلابات تتوالى؛ فكان كل انقلاب يولد انقلاباً والواقع أن العسكريين كانوا من أنصاف المثقفين، وكانوا من العلمانيين الَّذين يريدون فصل الدين عن الدولة؛ وأنا أذكر أنني حضرت يوماً اجتماعاً.. كان أديب الشيشكلي هو رئيس الأركان، وكان فيه واحد اسمه هاشم الأتاسي، وكانت الجمعية التأسيسية السورية تريد أن تضع دستوراً، وكان الخلاف شديداً بين الجيش وبين هاشم الأتاسي (يرحمه الله) على نص دين الدولة الإسلام؛ الجيش كان يحاول بكل ما يملك على إلغاء هذه المادة وعلى عدم القبول بهذا الشيء؛ وفي الواقع أن الحركة العلمانية التي تمحورت حول العسكريين امتدت إلى سنة 67 في سنة 67 انكشفت كما هي وهو هزيمتنا المشهورة والمعروفة، وانكشفت كل الأيدلوجيات الفارغة، ولمست جماهير الأمة العربية على أنه لا تستطيع أن تعيش في فراغ روحي..، فعادت إلى منابعها الأولى وهي الإسلام، وهذا. ما يسمونه - الآن - بالصحوة الإسلامية، وهذا ما أحببت أن أوضحه لكم. |
|
|