(( كلمة المحتفى به معالي الدكتور عبد الله بن بيَّه ))
|
ثم أعطيت الكلمة لضيف الاثنينية - علامة العلم وخادم الإسلام - الشيخ عبد الله بن بيَّه فقال: |
- الحمد لله رب العالمين.. الحمد لله على ما أظهر.. والحمد لله على ما ستر.. والصلاة والسلام على سيدنا محمد.. وعلى آله وصحبه. |
- إخواني غمرتموني بالثناء.. فلا أعرف من أين أبدأ؟ فسأقول ببساطة: شكراً لكم - جميعاً - كل باسمه وصالح وسمه؛ إذا سمحتم لي سأتوجه إلى أخينا الشيخ عبد المقصود خوجه، لأضيف شهادة إلى شهادات، وثناء إلى إثنيه - إذا صح هذا الجمع - وقولاً على قول، يمكن حقيقة أن يقول المرء مع أبي تمام: |
فلو كان يفنى الشعـر أفنـاه مـا قـرت |
حِياضَك منه في العصور الذواهب |
ولكنه صوب العقول إذا انقضت |
سحائب منه أعقبت بسحائب |
|
|
- سأحكي قصة أنتم هنا كالجودي.. ما هو الجودي؟ الشيخ الصابوني خبير بهذه الأشياء؛ وأنا - حقيقة - أعتذر لأنني أتكلم أمام هؤلاء القوم، رغم ما أوصلوني إليه من الإطراء، وسأتحدث عن ذلك بعد قليل. |
- الجودي: هو جبل.. سأقول ورد في القرآن الكريم: واستوت على الجوديّ واختلف العلماء هل هو جبل بعينه أو هو كل جبل؟ القصة.. يقول مجاهد: إن الجبال أوحى الله إليها أن سفينة نوح سترسو على أحدها، فتشامخت الجبال وتطاولت لتنجو من الغرق؛ وحتى لا تطفو السفينة عليها، أما الجودي فتطامن للسفينة فنجَّاه الله من الغرق وهكذا كل من تواضع لله (جلّ وعلا) رفعه الله. |
- تلك قصة الجوديّ قد تكون صحيحة وقد لا تكون كذلك؛ ولكن الصحيح هو الحديث الَّذي يرويه مسلم: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما نقصت صدقة من مال وما ازداد عبد بعفو إلاَّ عيسى، وما تواضع أحد لله إلاَّ رفعه الله". |
- إخواني: أنتم في هذا البلد متواضعون جميعاً؛ ملك المملكة العربية السعودية سُمِّي خادم الحرمين ليس شاهنشاه، وقد كان يمكن أن يتسمى بتلك الأسماء؛ وجهاء هذا البلد ورجاله يستقبلون العلماء ويتواضعون لهم؛ أرجو أن يكون ذلك سبباً لنجاتكم من كل غرق. |
- أخي الشيخ عبد المقصود: لا أجد الكلمات، فسأقول: إن الوفاء والسماحة والبرّ هي.. شمائل محمودة، ولقد تكون أولى من ممدوح امرئ القيس، وامرؤ القيس لا يمدح كثيراً وإنما قال هذه الأبيات: |
وتحسب فيه من أبيه شمائل |
ومن خاله ومن يزيد ومن حُشُر |
سماحة ذا وبر ذا ووفاء ذا |
ونائل ذا إذا ناداه ويا سمر |
|
|
- هذه الصفات الحميدة جعلتني أقبل وأنزل على طلبكم، بعد أن اعتذرت وتعذرت وتعثرت، ليس رداً للكرامة وإنما لأسباب هي عندي مقنعة. |
- السبب الأول: إني لا أستحق.. لا أجد في نفسي استحقاقاً لأن أكرم؛ والسبب الثاني: هو أن لا أقول من اكتوى بنيران الشهرة في وقت من الأوقات، ولكن من لبس ملابس الشهرة في وقت من الأوقات، يجد لذة في الخصوصية.. في أن يعيش مع خصوصيته؛ قبل أيام - لا أقارن نفسي بكلينتون - قبل أيام يقال إنه كان يدخن فلاحظوا عليه ذلك، فكان متأسفاً جداً لأنه خرج من خصوصيته هذا الرئيس؛ أنا أحفظ من هذه القصص التي تتعلق بالخصوصية كثيراً، وأذكر منها قصة واحدة، وسأعفيكم من السياسة في المداخلات. |
- جئت ذات مرة بملابس - قد تكون خفيفة - لمجلس الوزراء، وما كان من الرئيس إلاَّ أن أرسل تعميماً لأعضاء الحكومة، يطلب منهم أن يأتوا بملابس رسمية التي هي الملابس الأوروبية؛ وأحد الوزراء قال: هذا بسبب فلان الَّذي جاء بملابس النوم؛ إن الإنسان إذا كان منظوراً إليه فإنه يجد صعوبة في الحياة، وهو يحتاج أن يعيش في خصوصيته، أن يعيش في خاصة نفسه في الخويصة؛ هذه حقيقة السبب الثاني، أما السبب الثالث فهو سبب صحي، حيث أسكن مشروع الأمير فواز وهو بعيد جداً، والسهر والسمر قد ينال من قوتي ومن قواي في سني هذه. هذه هي الأسباب، ولكن نزلت لأن شمائل الرجل طلبت، وقد يسأل الإنسان وهو يعطي: |
تراه إذا ما جئته متهللاً |
كأنك تعطيه الَّذي أنت سائله |
|
لهذا فسأقدم تحية وسأتحدث بعد ذلك - إذا شئتم - عن معالجتي للقرارات الفقهية التي تصدر عن المجامع.. كيف تعالج؟ وسأقول بعد ذلك كلمة أخرى عن موريتانيا وأدبها وثقافتها - إذا شئتم ذلك - وسأعفيكم من السياسة وأقول مع الأدب الموريتاني، وهو موجود الآن في المدينة المنورة، وبقيت له سنتان عن المئة وفي غاية ضعفه، ولكنه ما زال إلى الآن يقول الشعر أقول معه: |
خَلِّ السياسة إلى جانب |
وارم لها الحبل على الغارب |
لا تك مغلوباً ولا غالباً |
كن ثالث المغلوب والغالب |
|
|
- تحية.. سأحاول أن تكون شبه شعر، لقد فضحنا أخونا الدكتور أحمد الأهدل حينما قرأ شعراً في المزاح وليس شعراً جاداً هنا أمامكم، وأنا لست شاعراً ولكني أفهم الشعر: |
أسوق عكاظ أمَّه الشعراءُ |
فمغنى زياد قبة وخباء |
أم المربع المعمور من آل برمك |
تداعى به السمار والأدباء |
تساجل فيه القائلون فأطنبوا |
وأوجز إبداعاً به الحكماء |
أم الحلقة الغراء من حول مالك |
تبارى به القراء والفقهاء؟ |
أجل قصـرك السامـي وخضـر رياضـه |
وأنت به والنخبة النجباء |
يذكرنا بالأصمعيِّ وشيخِهِ |
أبي عمرو
(1)
اليَمِّ علاه علاء |
وعمرو
(2)
وخفـش
(3)
بالعراقـين أبصـروا |
ومن لفه فرو
(4)
بها وكساء
(5)
|
وها قصرك الميمون يقصده الألى |
يرومون مقصوداً سناه سناء |
بمجلسك المشهود فقه وسيرة |
وشعر وأكل مشتهى وثناء |
فعش مفضلاً بين الأنام فإنما |
جزاؤك ذكر طيب ودعاء |
|
|
هذه مساهمة في الثناء - وكما قلت - وثناء على الاثنينية، وهو قول على قول؛ ففي هذه الاثنينية من بين الأثانين الكثيرة، التي هي قِبلة العلماء والشعراء والأدباء. |
- حديثي - كما قلت - سيكون عن كيفية معالجة المسائل في المجامع الفقهية؟ هذه المجامع هي مجامع أنشئت حديثاً، وبعضها متفرع من منظمة المؤتمر الإسلامي ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وبعضها تابع لرابطة العالم الإسلامي والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي؛ هذه المجامع أنشئت لمعالجة القضايا المعاصرة، فالتعامل وصيغ التبادل في العالم الَّذي نعيشه تختلف كثيراً عما كانت عليه في العصر القديم؛ ولذلك لابد من معالجة جديدة لهذه القضايا. |
- ترد هذه المسائل على المجامع الفقهية، فتسلك سبيلاً قد يطول أو يقصر، طبقاً لطبيعة المسألة المعروضة؛ أمام المجمع تمر بمرحلتين أساسيتين: المرحلة الأولى: هي مرحلة التشخيص، والمرحلة الثانية هي مرحلة المعالجة الفقهية. |
- مرحلة التشخيص مرحلة أساسية، فكثير من الفقهاء لا يعلمون ولا يعرفون البيئة التي ولدت فيها هذه المسائل؛ مثلاً: مسائل اقتصادية الإيجار المنتهي بالتمليك، هذه مسألة وردت في أوروبا إيجار منتهٍ بتمليك؛ فصاحب هذا العقد يؤجر باسم الإيجار ولكنه في الحقيقة هو بيع؛ لذلك سماه بعض الفقهاء القانونيين بالإيجار السائر للبيع. |
- فالفقيه عندما تُقَدَّمُ إليه هذه القضية؛ فإنه يحتاج - أولاً - إلى التعرف على بيئة هذا العقد، على البيئة التي ولد فيها هذا العقد.. وكيف ولد؟ وكيف تطور؟ بمعنى أنه عليه أن يدرس الأوضاع القانونية والتطور التاريخي لهذا العقد، ليصل إلى حقيقته وإلى تكييفه تكييفاً صحيحاً ليحكم عليه؛ والحكم على شيء فرع عن تصوره، ومن أجل ذلك فهو مضطر إلى الرجوع إلى بطون كتب القانون، وإلى أقوال فقهاء القانون؛ للتعرف على هذا العقد لا بد أن يرجع إليه ويحلله إلى عناصره الأولى، حتى يصدر عليه حكماً؛ لأن الحكم على شيء هو فرع عن تصوره. |
- مسائل طبية - مثلاً - كمسألة موت جزء الدماغ، الفقيه تلقى: أن الموت هو موت القلب، ولكن القلب ما زال ينبض يحتاج إلى دراسة طويلة، واستماع إلى الأطباء ليصل في النهاية إلى أن موت الدماغ هي موتة أخرى.. كموت القلب، وأن القلب قد ينبض والشخص ميت. |
- هذه أمثلة على المسائل التي يعالجها الفقيه، والتي تبدأ بمرحلة التشخيص، وهذه المرحلة قد تطول وقد تقصر، لأن الفقيه قد لا يفهم أبداً التشخيص الَّذي يقدمه له رجال الاقتصاد أو رجال القانون، أو الأطباء..، لأن معلوماته التي تلقاها كلها لا توافق العناصر التي تقدم إليه؛ فمرحلة التشخيص هي مرحلة هامة جداً في إصدار القرارات لتكون صحيحة وسليمة، ولذلك فإن كثيراً من الخلاف الَّذي ينشأ بين العلماء في مجمع فقهي أو بين مجمع ومجمع آخر، ترجع إلى مرحلة التشخيص، لأن بعض العلماء لم يستوعب هذه المرحلة استيعاباً كافياً، وبالتالي أصدر حكماً على شيء لا يعرفه ولا يحيط به علماً. |
|
- هذه المرحلة هي مرحلة هامة جداً، ولذلك في هذه المسائل احتجنا إلى دراسات ومناقشات كثيفة بين الاختصاصيين وبين العلماء، وبين الفقهاء؛ لنصل في النهاية إلى تكييف العقد أو تكييف الحادثة، أو تكييف الواقعة وتشخيصها؛ حتى نستطيع أن نعالجها فقهياً، لأنه قبل هذا التكييف لا نستطيع معالجتها فقهياً؛ هذه هي المرحلة الأولى. |
- المرحلة الثانية تبدأ بالمعالجة الفقهية؛ الفقيه يضع أمامه الواقعة عقداً أو واقعة، أو حادثة لعناصرها التي تلقاها من الفئة التي طرحت الموضوع، فهو إما يجدها منصوصة في كتاب وسنة، ونادراً ما يجدها منصوصة، لأنها حادثة جديدة؛ وبالتالي - في الغالب - أنه لا يجدها حينئذ إلاَّ بعد أن يمر بجملة من المراحل حسب ترتيب الأدلة؛ فأولاً ينظر يميناً ويساراً.. هل يوجد أصل مثمن معين، كما يقول شمس الدين السمرقندي: "إن القياس لا يقع إلاَّ إلى شيء معين له اسمه"؟ هل هذه المسألة لها أصل ليردها إلى هذا الأصل وليقيسها عليه؟ وهل شروط القياس متوفرة لوجود حكم وأصل، وبوجود علة جامعة؟ فإذا توفرت هذه الشروط وزالت الموانع، بحيث لا يكون الأصل مخصوصاً بحكم، ولا يكون الأصل منقوضاً - ولا أطيل عليكم بالتعريفات المختلفة - قد تكون المسألة جديدة تماماً ولا يوجد لها مثيل حتى تقاس عليه، في هذه الحالة: الفقيه سيرجع إلى المصالح المرسلة؛ والمصالح المرسلة - كما هو معروف - هي نتاج مالكي؛ المالكية هم القائلون بهذه المصالح بقوة، وإن كان الفقهاء الآخرون عملوا بها دون أن يعترفوا بأنهم قالوا بها، لأنهم يعملون بالمناسبة المطلقة التي ليست مقيدة، بدون ذكر مناسبة خاصة، بدون ذكر اعتبار؛ وهذا هو مبدأ المصالح المرسلة. |
- حينئذٍ فإن الفقيه يلجأ إلى المصالح المرسلة، فإن عليه أن يقوم بضبط كامل لمسار قضيته، بحيث يطمئن أنه لا يوجد نص في النازلة، وحيث يطمئن - ثانياً - إلى أن هذه القضية مندرجة في مقصد من المقاصد الثلاثة: المقصد الضروري، والمقصد الحاج، والمقصد التكميلي؛ وهذه المقاصد هي التي تقوم عليها الشريعة، وخصوصاً المقصد الضروري.. عندما يقول: إن المصالح المرسلة لا بد أن تكون في خدمة المقصد الضروري فقط، ولا يمكن أن نتوسع بها لخدمة المقاصد الأخرى. |
- المصالح المرسلة في أصلها هي متفاوتة تفاوتاً كاملاً، كتفاوت تعيين الصدِّيق (رضي الله عنه) لعمر، وهدم جدار البيت الَّذي يضايق المسجد المضايق للطريق؛ كل هذا يدخل في المصالح المرسلة التي اختص بها المالكية وكان يعمل بها الصحابة؛ ولكن ترون مدى التباين بين الأفراد التي تدخل في جنس المصالح المرسلة، فعلى الفقيه أن يكون دقيقاً، وأن يتناول القضية تناولاً صحيحاً، لأن المصالح المرسلة لا شأن لها إلاَّ في الفراغ.. أي في المنطقة العفو؛ إذا وجد نص صريح يحكم بالتحريم أو بالإباحة، فإن المصالح المرسلة لا شأن لها بهذا، ولهذا فإن على الفقيه أن يكون بصيراً جداً بالتعامل مع هذه المرحلة. |
- قد لا يجد - أيضاً - المناسب المرسل، وهو الَّذي تقوم عليه المصالح المرسلة، فحينئذٍ ينشأ الاستحسان، والاستحسان - كما نعرف - هو نتاج حنفي أيضاً، حتى أن الشافعي قال: "من استحسن فقد شرع" والشافعي، وأبو حنيفة، ومالك، وأحمد، قالوا بالاستحسان، مع تفاوت كبير بين مفاهيمهم فيما يتعلق بالاستحسان؛ فقد عرفوه بأنه العدول بالمسألة عن نظائرها لدليل أقوى، وهذا المضمون لا يختلف فيه معهم الشافعي، ولكنه يمتنع من تسميته استحساناً، وإن كان الشافعي وقع منه كلمة استحسن في ثلاثين درهماً للمتعة في متعة النساء. |
- الاستحسان هو مجال خصب جداً، يدل على عبقرية الفقيه، وعلى كفاءته في التعامل مع القضايا المتجددة؛ لأن الاستحسان قد يكون استثناءاً من نص، يرد النص عاماً، فيستثني الفقيه من هذا النص بناءاً على مصلحة أو بناءاً على عرف، وهذا أمر في غاية الأهمية؛ مثال ذلك ما وقع في المجمع الفقهي مما قدم إلينا عقد الاستصناع؛ قلنا بالجواز من باب الاستحسان؛ ما هو عقد الاستصناع؟ |
- أنت قد تشتري أو قد تطلب من مصنع أن يصنع لك كذا من الآلات، جيش مثلاً يطلب صناعة دبابات أو يطلب ملابس عسكرية، هو لا يدفع الثمن الآن.. فالثمن والزمن غائبان.. والأصل والنهاية لا يجوز؛ النبيّ (صلّى الله عليه وسلم) يقول: "لا تبع ما ليس عندك" والسلم الَّذي أجازه يدفع فيه الثمن مقدماً؛ إذن هذا ليس من السلم، وليس - أيضاً - من البيع بالأجل؛ استثنينا هذه المسألة بناءاً على الاستحسان الَّذي هو استثناء لمصلحة أو استثناء لعرف، بناء على بيعة كانت تسمى بيعة المدينة، أن تشتري من دائم العمل كخباز.. تشتري من عنده حتى ينتهي الشهر؛ ومالك (رحمه الله تعالى) قال بهذه البيعة وقال: إنها بيعة وليمة. |
- إذن الاستحسان قد يوفر مجالاً واسعاً للفقهاء للتعامل مع القضايا المتجددة، فهو استثناء ولكنه استثناء دقيق، لابد أن يخضع للمقصد؛ بمعنى أنك ستستثنيه من هذا النص، ولكن في نفس الوقت تنظر إلى مقصد عام لتتعامل مع النص من خلال المقصد؛ مثل ذلك ما قاله مالك وأبو حنيفة: "من أن الشرفاء إذا كانوا فقراء ولم يجدوا من بيت المال ما يكفيهم، فإن الصدقة تدفع لهم". مع أن النبيّ (صلّى الله عليه وسلم) يقول: "لا يحل لمحمد ولا لآل محمد منها شيء". |
- كيف استثنوا من هذا النص؟ كيف خصصوا هذا الآن؟ خصصوه بمقصد وقالوا: إن المحافظة أصل الشريعة؛ المحافظة على سد خلتهم، أو للمحافظة على سد خلة غيرهم؛ وبالتالي نبيح لهم من هذا النص الخاص بناءاً على مقصد عام. |
- فالاستحسان هو تعامل بين النص الخاص والمقصد العام؛ وحين يحسن الفقيه هذا التعامل، فإنه قد يجد حلولاً لكثير من المشاكل التي تعترضه؛ حينئذٍ يتماثل القرار للخروج، أو يولد قرار المجمع الَّذي يجب أن يمر بمجموع هذه المراحل، أن يغربل لينتهي إلى غربلة صحيحة، وليخرج القرار بحيثيات سليمة يمكن أن يواجه بها الناس. |
- إخواني تكلمت عن هذا باختصار شديد ولكنه موضوع مهم، ومعالجتي لمسائل الخلاف وتوضيح أوجه اختلاف الأقوال في مسائل معاملات الأموال..، دائماً أحاول أن أطبق هذه المنهجية في تعاملي مع القضايا، وقد لا أنجح في تطبيقها. |
- ابن خلدون وضع مقدمته، وهي مقدمة جيدة جداً في التعامل مع التاريخ، إلاَّ أنه في كتاب العبر لم يطبق هذه المنهجية؛ ففي كتاب العبر وجدنا منهجية أخرى.. سرداً تاريخياً، بينما هو وعد في المقدمة بتحليل تاريخي، ولكن هذا التحليل لم يولد في كتاب العبر؛ إذن أنا قد أقول هذا ربما، ولكن أحاول - على الأقل - أن أبلغه وأوصله إلى أولئك الَّذين قد يطبقونه؛ هذا باختصار شديد، فإذا كانت هناك أسئلة، فأنا مستعد للإجابة عليها في هذا الموضوع أو غيره. |
- فيما يتعلق بموريتانيا والثقافة الموريتانية..، موريتانيا كانت معروفة في المشرق ببلاد شنقيط، وهذه البلاد دخلها الإسلام على وجه التحديد سنة 115 هجرية، حينما افتتح حفيد عروة ما بين سوس والسودان، وهو موقع موريتانيا الحالي؛ كما يقوله البلاذري في كتابه: "فتوح البلدان" ولكن الدين استمر ديناً قبلياً؛ القبائل تطوع الدين لنزعتها ولطريقتها في الحياة حتى القرن الخامس الهجري.. بداية القرن الخامس الهجري، حين تحالف السلطان وأهل البرهان - كما يقول أخونا أبو فيصل - تحالف أمير من القبائل التي ينتمي إليها من المرابطين مع الفقيه عبد الله بن ياسين الفاصولي، الَّذي جاء من المغرب لهذا القرار؛ طلبوا منه أن يأتي بعد أن سافر الأمير إلى الحج واصطحب معه هذا الفقيه، وحينئذٍ بدأت دولة قائمة على الكتاب والسنَّة، وبدأ الجهاد في هذه المرحلة، بدأ الجهاد وتوحد المغرب وموريتانيا والأندلس تحت حكم المرابطين - في تلك المرحلة - وانتشر العلم في ربوع موريتانيا، إلاَّ أنها عادت إلى سيرتها الأولى بعد فترة.. بعد مئة عام تقريباً، فرجعت القبائل بإماراتها وتقاليدها التي تجعل الإسلام في حجم معين - أو في زاوية معينة -، لا يتجاوزها كثيراً. |
- واستمر هذا الشأن حتى القرن الحادي عشر، حين قامت محاولة من طرف الإمـام ناصر الدين - وهو من تلك القبائل في غرب البلاد - فجاهد القبائل وفتح أجزاء كبيرة من السنغال، وولى عليها بعض الأمراء، وجاهد القبائل، ودامت حربه معهم سجالاً؛ ولكن القبائل العربية غلبت وتغلبت، وسلكت إلى سيرتها الأولى في التناحر إلى فترة متأخرة جداً. |
- في هذا الوقت.. هذا الإمام ناصر الدين، كان يؤدب الشعراء إذا قالوا غزلاً؛ شاعر قال بيتين من الغزل أدبه: ولكنهم انتقموا منه بعد ذلك فقالوا كثيراً من الشعر الَّذي يتضمن الغزل ويتضمن البكاء على الأطلال، وكانت أشعارهم تتضمن ملامح ومعالم القصيدة النجدية، يركب الناقة أو الجمل ليصل إلى محبوبته؛ يذم العاذلة ويندد بها، يشهر بغراب البين، وإن كان الغراب لا دخل له بانتقال الناس من مكان إلى مكان، يصل إلى الممدوح فيصفه بأنه كالأسد الغضنفر وكالبحر، أو كالبدر سناءاً وضياءاً إلى آخر المعاني التي تعرفونها جميعاً.. |
- هذه كانت حالة القصيد الموريتاني والشعر الموريتاني، بعد أن ذهب ذلك الإمام (عليه رضوان الله) مات شهيداً في المعارك الَّذي كان شديداً جداً ضد الغزل، مع أن الغزل ثبت أن النبيّ (صلّى الله عليه وسلم) أو كما روي عن البيهقي في السنن الكبرى أن النبيّ (صلّى الله عليه وسلم) أنشدت بين يديه قصيدة كعب، وتعرفون ما ذكر فيها عن سعاد: |
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول |
متيم إثرها لم يلق مخبول |
وما سعاد غداة البين إذ ظعنوا |
إلاَّ أغن غضيض الطرف مكحول |
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة |
لا يُشتكى قصرٌ منها ولا طول |
|
|
أعتقد أن هذا هو الغزل، إن لم يكن كذلك فلا غزل؛ ومع ذلك فلم ينهه النبيّ (صلّى الله عليه وسلم) وحتى بعض أكابر الصحابة. |
- أقول هذا الكلام حتى نستفيد بأنه لا بأس من ذلك. النعمان بن بشير (رضي الله عنه) جاء يوماً إلى قوم، وكان رجلاً ينشدهم قصيدة لقيس بن الخطيم، وتكلم في هذه القصيدة عن أمه عمرة، النعمان بن بشير صحابي وابن صحابي، فأمسك القوم لما دخل.. قال لهم: لا تمسكوا؛ فقـال بعضهم هذه قصيدة لقيس بن الخطيم؛ قال: ماذا قال؟ قال: |
وعمرة من سروات النساء |
تنضح بالطيب أردانها |
|
|
فقال النعمان: لا بأس بهذا.. أنشدوا القصيدة. |
- إذن: الصحابة (رضوان الله عليهم) كانوا يتسامحون في الشعر، ولا بأس عندهم. بهذه الأمور إذا لم يكن تشهيراً بمحصنة أو قذفاً لها، ونحو ذلك من الأمور.. |
- الموريتانيون إذن كانوا يقولون الشعر في شتى صنوفه وشتى أنواعه؛ حاول أحد شعرائهم - في آخر القرن الثاني عشر وبداية القرن الثالث عشر - أن يطلب من الشعراء ميثاقاً جديداً، يتخلون فيه عن الشعر القديم عن المقاصد القديمة؛ قال: |
يـا معشـر الشعراء هـل مـن لوذعـي |
يهدي حجاه لمقصد لم يسمع |
هل غادرت هل غادر الشعراء في |
بحر القصيد لوارد من مطمع؟ |
فحـذار مـن خلـع العيـار علـى الديار |
ووقفة الزوار بين الأَرْبُعِ |
وتردد العبرات في عرصاتها |
وتردد الزفرات بين الأضلع |
والقينة الشنبا تجاذب مزهراً |
والقهوة الصهبا بكأس مترع |
فجميع هذا قد تداولـه الورى |
حتى غدا ما فيه موضع أصبع |
|
|
حاول أن يطلب منهم ذلك، ولكنه هو لم يستطع - أيضاً - الخروج بشيء جديد، بل إن قصائد هذا الشاعر - ما عدا تلك التي كان يحض فيها على الحرب مع الفرنسيين.. مع المستعمرين - كانت كلها على النسق الرتيب، وذلك النسق الموروث من تاريخ قديم من القصيدة نفسها؛ إلاَّ أن هذا الشاعر حض على المقاومة وقال قصيدته التي مطلعها: |
رويدك إنني شبهت داراً |
على أمثالها تقف المهارا |
تأمل صاحِ هاتيك الروابي |
فذاك التل أحسبه أنارا |
وتانِ الرملتان هما ذواتا |
عليان وذا خط الشقارا |
|
|
إلى أن يقول الشاعر: |
ولو في المسلمين اليوم حراً |
يفك الأسر أو يحمي الذمارا |
لفكوا دينهم وحموه لما |
أراد الكافرون به الصغارا |
حماة الدين إن الدين أضحى |
أسيراً للصوص وللنصارى |
لئن بادرتموه دركتموه |
وإلاَّ يسبق السيف البدارا |
|
|
|
فحض هذا الشاعر كغيره من الشعراء الَّذين حضوا على المقاومة، وبالجملة فإن الشعراء الموريتانيين لا يخرجون عن هذه الدائرة؛ إلاَّ أنه في العصر الحديث ظهر منا - والحمد لله الَّذي لا يحمد على مكروه سواه - بعض شعراء الحداثة؛ ولهم سهم طيب جداً في هذا المجال، واحد منهم أنشد قصيدة لأدونيس؛ أدونيس زارهم هناك يباركهم، فأتاه أحد الشباب وأنشده قصيدة بالغ فيها بما هو معروف عنهم من الرمزية، فقال أدونيس: هذا جيد، ولكن لا بد أن تقول شعراً لا تفهمه حتى تصل إلى قمة المباركة، وأعتقد أنه لا هو ولا أدونيس يفهمون ما قاله الشاب وما يقول أدونيس نفسه. |
|
- وختاماً ليست لدي أقوال أخرى أمليها على حضراتكم، وإنما لدي مساهمات من خلالها، أرجو أن أوفق إلى الوصول إلى بعض الأمور التي تشغل بالكم، أو التي تلم بأذهانكم في هذا العصر الَّذي نعيشه. |
|