أمكّة .. يا هذي الرحاب تألّقت |
بنور الهدى الهادي لنا من محمدِ! |
أمكة .. يا هذي المغاني تأرجت |
بعطر شذى .. من نبي ومسجد! |
أمكة .. يا هذي البطاح تبخترت |
بأشجع مغوار .. وأكرم منجد! |
لقد عشت فيها منذ ستين حجة |
فأطربني أني بمكة مولدي! |
لقد ولد المختار فيها فأشرقت |
دياجيرها بالنور من خير محتد! |
وقد ولد الأمجاد من كل ملهم |
بشق يراع .. أو بحد مهند! |
وقد شع منها النور في كل أمّة |
وكل مكان .. فاستنار بأحمد! |
لقد كان بدراً للدياجير كاشفاً |
ومن حوله الأصحاب من كل فرقد! |
فما كان كالصدِّيق في الناس رقة |
وحزماً أطلا منه في كل مشهد! |
ولا كان كالفاروق عدلاً وحكمة |
فما ثم من عبد لديه .. وسيد! |
وليس كعثمان الشهيد سماحة |
على كل خصم حوله .. ومؤيد! |
ولا كعلي جرأة وزهادة |
وعلماً به الساري إذا ضلّ يهتد! |
زهت بهم الدنيا فيا رب ماجد |
سخا بعد أن ولى .. عليها بأمجد! |
ديار الهدى والمجد .. ما أشرف المنى |
إذا ما استقرّت عند أشرف مقصد! |
درجت بها طفلاً .. فكانت طفولتي |
تدندن في نعمى .. وتمرح في دد! |
وعشت بها غض الشبيبة أرتوي |
من العلم عن أشياخه .. خير مورد! |
ومازلت كهلاً أصطفيها وأجتدى |
رضاها .. وما من غيرها كنت أجتدي! |
وأرجو أنا الشيخ المتيم بالهوى |
هواها .. ثوائي تحت أكرم فدفد! |
لعل الذي أحيا يجود بفضله |
على ميت .. عند المعلاّ بمرقد! |
رعى الله في أم القرى وشعابها |
زماناً تولّى كالسحاب المبدد! |
نعمت به طفلاً .. نعمت به فتى |
نعمت به كهلاً كدر منضد! |
وحولي من الفتيان أكرم صحبة |
نشاوى افتداء .. أو نشاوى تودد! |
إذا قلت هيا .. لم أجد من تقاعس |
وإن قلت كلا .. لم أجد من تردد! |
يتيمهم حب المآثر والندى |
وما انصرفوا لهواً إلى حب أغيد! |
تذوقت رغد العيش فيهم وشدني |
إليهم رحيق الود غير المصرد! |
إذا دهم الخطب المزلزل بينهم |
خليلاً رأى في كلهم خير مسند! |
فأسعده منهم وفاء ونائل |
وما كل رهط في الحياة بمسعد! |
لقد كاد هذا العهد يطوى قلوعه |
وكانت ظلالاً في الهجير الممرد! |
فيا كبدي بعد التفرق والنوى |
تحن إلى العهد الحبيب الممجد! |
وقد حيل ما بين المحب وحبه |
بنأي شتيت .. أو بصرف مبدد! |
إذا سرت في تلك الرحاب تعثرت |
خطاي بها .. من رائح ومجدد! |
فأسلمت للدهر المناوش راغماً |
ليفعل بي ما شاءه الدهر .. مقودي! |
يلوم رفاقي إن تبدّلت مربعاً |
منيفاً بأدنى منه .. لكن بأرغد! |
أحقاً! وقد لاقيت في النأي شدّة |
أروح بها بين الأنام واغتدى؟! |
وما كنت أختار الرغادة إن نأت |
بنفسي عن هدى .. وألوت بسؤدد! |
ولكنها الأقدار تطوي قلوعنا |
وتنشرها في هائج الموج مزبد! |
فنخضع .. لا ندري إلى أي حالة |
نصير .. لأشقى؟! أم نصير لأسعد! |
وقد كنت في حالي أطوي دخائلي |
على مضض من حاقدين وحسد! |
وما أنا بالزاري عليهم فربما |
أبوء بما ألقى بذكر مخلد! |
أبوء به .. والخلد ينظر باسماً |
إليَّ .. ويلقون الهوان بمرصد! |
وكم مفسد لم يلق غير تأفف |
من الناس .. أو غير الحديث المفنّد! |
تطلع للأقدار يرجو نوالها |
فلم يلق غير البؤس .. غير التشرّد! |
وكم كائد في الأرض يهفو لموعد |
حفي .. فما يلقى سوى شر موعد! |
أمكة .. يا دار المشاعر والنهى |
ويا موئل الأحرار من كل أصيد! |
أحن إلى مغناك رغم بعاده |
وإن كنت عن مغناك لست بمبعد! |
وتهفو الحنايا مثقلات بهمها |
إليك إلى ذات السنا المتفرّد! |
وما أنا إلا بلبل في خميلة |
ولكنني لولا الهوى لم أغرّد! |
هواك الذي تصبو إليه نوازعي |
وتبقى به في لوعة وتوجّد! |
أهيم بواديك اليبيس وأشتهي |
ببطحائه المثوى بلحد ممهد! |
تركتك مجفواً .. وما كنت جافياً |
فما كنت إلاّ كالسجين المصفَّد! |
فلا تنعتيني بالعقوق فإنني |
لبر إذا زوّدت أو لم تزود! |
تؤيدني في البر هذا أوابد |
تلوح كصرح بالقوافي مشيد! |
أقدم قرباناً إليك شواردي |
فكم من مغن يصطفيها .. ومنشد! |
يرددها الشادون للناس مرة |
وأخرى .. فتحلو كالجنى بالتردد! |
فلو سبقت حيناً من الدهر لم يكن |
يغني بها غير الغريض ومعبد! |
أمكّة .. والحانون حولي على الحمى |
حماك .. كثير من ضعيف وايد! |
يودون لو عاشوا هناك .. فتلتوي |
بهم عنك أرزاء الأسير المقيد! |
عطاش .. وذيدوا عن نمير مبرد |
فبلى حشاهم بالنمير المبرد! |
فكم وامق مثلي .. وكم متطلع |
إليك هفا .. من خامل ومسود! |
ولولا ظروف عائقات لأصبحوا |
وأمسوا بمغنى العز .. مغنى التهجد! |
جنود. وما يرجون أجراً على المدى |
وكم لك فينا من كريم مجند! |
ولو سيم بالدنيا .. بما في كنوزها |
من الماس يغلو.. من لآل وعسجد! |
لما كان إلا سيداً وابن سيد |
ولا كان إلا أوحداً وابن أوحد! |
ثراك لديهم كالثريا وربما |
علوت على التبر النفيس بجلمد! |
فَمُنِّي عليهم بالرضى .. وتطلّعى |
إليهم .. إلى هذا الهوى المتجسد! |
ليسعدهم أن يبصروك قريرة |
ويتعسهم أن تشجبى وتنددي! |
أَمكة. ما يجفو التراث مسدد |
ولكنما يجفوه غير المسدد! |
لئن نزح الأحباب عنك لفترة |
من الدهر خوف الغاشم المتوعد! |
وما هو إلا العيش يطوي جناحه |
فقيراً .. فيجتاز النفيس إلى الردي! |
قضاء علينا ما نطيق اتقاءه |
فليس لنا غير الرضا والتعوّد! |
ولكننا نصفيك حباً مبرءاً |
من اللهو .. حب القانت المتعبد! |
تجرّد من نفع .. تجرّد من هوى |
حقير .. وأسمى الحب حب التجرد! |
فما أنت إلاّ القدس في الأرض ينتمي |
إلى القدس في العلياء .. بالأمس والغد! |
دعائمه شيدت بأيد قوية |
فليس لها من هادم متهدد! |
لك الله ما تبدين إلاّ لجيد |
هواك .. وما ترضين إلاّ بأجود! |
أرى في الصخور الصم فيك حلاوة |
فأحسبها من فرحتي كالزبرجد! |
وأغفو فتشجيني الرؤى وتهزّني |
برونقها الحالي .. فأهفوا لمرقدي! |
وأصحو على النعمى فيفتنني الكرى |
ويفتتني صحوي على حدو مشهدي! |
ولما طواني البين عنك تكاثرت |
شجوني .. فلم أثبت ولم أتجلّد! |
تكبّدت آلاماً .. فضقت ببرجها |
وكنت هنا من قبل لم أتكبد! |
تباركت ربي حين شرفت مكة |
على كل فردوس .. على كل فدفد! |
محوت بها ما بين أبيض ينتمي |
إلى هاشم عرقا .. وما بين أسود! |
كلا أثنيهما حر إذا أيد الهوى |
وأحقر من عبد إذا لم يؤيد! |
فما ثم للأحساب أية صولة |
كصولة قيس .. أو كصولة مرثد! |
ولكنها التقوى فكل امرئ بها |
يسود ويحظى بالثناء المردد! |
فهل لي برجعى أشتريها بمهجة |
مقتلة من شوقها المتوقِّد! |
إليها .. إلى تلك الرحاب فإنني |
لأحلم بالرجعى إليها .. أنا الصدي! |
أيا قدري .. والماء تحتي ولا أرى |
منابعه .. يا ليت لي عين هدهد! |
إذن لاحتفرت الأرض من غير منجل |
لتبتل أحشائي .. ولو دميت يدي! |
وما شر حاليك الهجير إذا انتحت |
عليك الليالي بالصقيع المجمد! |
وما الليث عند الدهر إلا كأرنب |
ولا النسر عند الدهر إلا كجدجد! |
ظننت بنفسي الخير ثم رأيتني |
أعيش كمثلي عيشة المتصيد! |
فهمهمت باسم الله، والله غالب |
على أمره أشكو إليه تمردي! |
فأحسست بعد اليأس أن تضرّعي |
دليل الرضا منه .. وإن تنهدي! |
فسبحانه نعصي فيسدي .. ونشتهي |
عليه. فما يأبى على متزيّد! |
ويا سرمدي الذات .. إني لبائد |
كمثل الورى طراً .. وليس بسرمدي! |
أنا المتردي من آثامي بحفرة |
تنكر لي فيها طريفي ومتلدي! |
وما منهما إلا حفيل بمنكر |
وما منهما إلا ظلوم ومعتدي! |
أقول لنفسي وهي تزخر بالأسى |
رويدك لا تشكي مآسيك واحمدي! |
فما الناس إلا مشفق أو مبيت |
شماتاً فكفي واسمعيني واقصدي! |
لئن كنت خطاءً فلست بجاحد |
ولست بجبار .. ولست بملحد! |
تغمدني الرحمن منه برحمة |
وهل مثله من راحم متغمد؟! |
له الحمد في يومي .. له الحمد في غدي |
له الحمد يوم البعث .. يوم التلدد! |
* * * |