أأمُّ القرى يا جنة اليوم والغد |
ويا زينة الماضي التليد المجدد |
ترابك أندى من فتيت معطر |
وصخرك أجدى من كريم الزمرّد |
أعز بلاد الله في الأرض موطناً |
ومولد خير الأنبياء محمد |
عرفنا الهوى من قبل أن يخلق الهوى |
لديك فوافيناه في خير موعد |
عشقناك أطفالاً صغاراً وفتية |
وزدناك أشياخاً عظيم التوجد |
رويناك بالدمع السخين محبة |
تنم على الوجد المكين المؤكد |
فلا عزّ من يجفوك أن عزفت به |
صنوف الأماني رادها شر مورد |
ولا زل من يحبوك إن عصفت به |
صروف الليالي من قريب ومبعد |
بلاد الهدى والجود والوحي والندى |
ومهد الكتاب المستطاب الممجد |
أحاط بك الحجاج من كل عابد |
تبتل للمعبود أو متعبد |
تنادوا إلى واديك من كل سبسب |
وجاؤا إلى ناديك من كل فدفد |
تهادوا إلى ساحٍ كريم مطهر |
تنادوا لديه من مسود وسيد |
لك الله إن الله حاميك ملجأً |
لكلِّ تقي مستقيم موحد |
ذكرتك في لبنان والسهل ممرع |
وفوق الذرى أسراب طير مغرد |
ولبنان جنات حسان تورّدت |
بسرب الصبايا في جمال مورد |
تزين رباها كل هيفاء غادة |
ويجلو رؤاها كل أهيف أغيد |
ففاضت دموع العين مني صبابة |
إلى كل مغنى في الحمى متغرّد |
تذكرت فيك الصخر والرمل والثرى |
ومأوى الصبا الريان بالحب والدد |
تذكّرت سوق الليل والشعب والصفا |
ومنعرج الوادي البهيج المنضد |
ذكرت النقا والرقمتين أطلتا |
عليه على البطحاء كالمتوجد |
ورقرقت بين الأخشبين مشاعري |
تفيض بشوق عارم متوقد |
ذكرتك في باريس والجو ماطر |
وباريس تجلو كل هم مؤيد |
بلاد كأن الجن فيها تماوجت |
وران عليها السحر في كل مربد |
كأن الفتى فيها الفتاة تشابهاً |
رواء وأخلاقاً بزي موحد |
كأن المرائي في رباها تألّقت |
شعاعاً، فتاهت في خضم معربد |
ولكنني لم أدر ما الحس في الذي |
رأيت ولم أشهده في أي مشهد |
وقالوا فينَّا جنة الأرض كلها |
ومنتجع الأفراح والمنتدى الندي |
تصاول فيها الحسن من كل جانب |
وقام عليها الفن في كل معهد |
يزيّنها الدانوب شرقاً ومغرباً |
وتزدان باللحن الفريد المغرّد |
فطوفت فيها عانياً متشوقاً |
أعالج فيها شقوتي وتسهدي |
فما كان لحن يستبيني غناؤه |
بأعذب من لحن الغريض ومعبد |
وما هي إلاّ ليلة وصباحها |
أطلّ عليها فجرها وكان قد |
تذكرت فيها المروتين وأهلها |
وسكانها من طائفين وسُجَّد |
فعدت إليها والهوى يستعيدني |
وقبلت أصحابي وعانقت عُوَّدي |
وقلت لنفسي حين قربها النوى |
وطاب لها المأوى مكانك تحمدي |
وطابت بك النفس التي أتت غرسها |
ومجلى صباها السابق المتجدد |
ذكرتك والدنيا فنون تنوعت |
بخير عميم أو بشر مهدد |
وطفت بأوروبا جنوباً وشَمْألاً |
وشرقاً وغرباً كالغريب المشرّد |
حضارة دنيا لا نصيب لأهلها |
من الدين والأخلاق غير التبدد |
تعرّت عن الحق المجانب للهوى |
وقامت على الإفك الصريح المصرّد |
فمالت بهم دنياهمو نحو قاعها |
ومالوا بها نحو الحضيض الموعد |
حضارة أبصار بدون بصائر |
تريد طريق الرشد من غير مرشد |
تردّت فأردت واستهامت فأوهمت |
بأوحش أفعال وأفحش مقصد |
وجاءك إبراهيم يحدو بهاجر |
إلى مهد إسماعيل فيك الممهّد |
أقاما بك البيت الحرام حدوده |
حرام على باغٍ وطاغٍ ومفسد |
فيا قمّة الدنيا ويا ذروة المنى |
أماناً لقلب المستهام المسهد |
ويا كعبة الآمال من كل جانبٍ |
ومستقبل الأجيال من كل مورد |
أشاد بك الإسلام طوداً ممنعاً |
تناهى إليه كل صرح مطوّد |
تأمن فيه الوحش والطير والورى |
فلا صيد فيه أو شراك لمصيد |
وزمزم فاضت كوثراً يرتوي به |
من الجمع جمع رائح بعد مفتد |
تباركت يا رب العباد جعلتها |
مراداً لعبَّاد مهاداً لسُجَّد |
وطهرتها بالوحي والوعي والنهى |
وبالكعبة الغراء أطهر مسجد |
وأرسلت منها سيد الخلق داعياً |
إليك فلم يغلظ ولم يتشدد |
دعا الناس في الدنيا لفضل مؤبد |
وبشر في الأخرى بخلد مخلّدِ |
ولكنهم خابوا وعابوا واجلدوا |
عليه فأعياهم بفضل التجلّد |
أمين مع الروح الأمين يروده |
بآي من الذكر الحكيم المؤيّد |
يناجي به أصحابه ورفاقه |
مناجاة مأخوذ به متزوّد |
كتاب عظيم من عظيم تنزلت |
بآيات آيات مجد وسؤدد |
فكان غذاء الروح يجلو رواءها |
وكان رواء النفس للظامئ الصدي |
سلاماً رسول الله من كل مهجة |
تهيم جلالاً في جداك وتجتدي |
سلاماً أبا الزهراء كالزهر كالندي |
كجودك بين العالمين المجوّد .. |
أقمت عمود الدين كالفجر ساطعاً |
ينير طريق الرشد للمترشد |
وقوّمت بالقرآن والسيف أمّة |
هوت في بهيم من دجى الليل أسود |
وحطّمت أصناماً من الناس شيّدت |
من الصخر أوثاناً لها للتعبد |
طغاة بغاة خاسرين تبلدوا |
على الجهل والخسران شر تبلد |
وقدت الورى للخير للنور للهدى |
لسعد كريم في الحياتين مسعد |
تنوّرت الأجيال مذ كنت نورها |
ولا زالت الدنيا بنورك تهتدي |
صبرت على اللأواء والضر والأذى |
من الأقرب الأدنى وآخر أبعد |
وكنت عطوفاً بالصديق الذي وفى |
رؤفاً رحيماً بالعدو الملدد |
وربيت أصحاباً نجوماً زواهراً |
تجسد فيهم كل فضل مجسد |
أقاموا لدين الله صرحاً مشيداً |
تدانى لديه كل صرح مشيّد |
وكانوا هداة مهتدين أئمة |
تخطى خطاهم كل هاد ومهتد |
وسادوا فقادوا للفضيلة أمة |
بأفضالهم راحت تسود وتقتدي |
أسود وقد تخشى الأسود لقاءهم |
منيبون بكاؤن حين التهجّد |
يصلّي مصليهم فيهتز خشية |
وخوفاً كغصن البانة المتاؤد |
سلاماً على الصدِّيق كالورد ناضراً |
على الورد في إقدامه المتوقد |
سلاماً عليه ناصر الدين في الوغى |
وقاهر جيش الكفر والردة الردي |
سلاماً عليه ثاني اثنين إذ هما |
بغارٍ قصي في العراء مجرّد |
أخا المصطفى بل صهره وصديقه |
وصدِّيقه الأسمى بأسمي تجرّد |
تولى أمور الناس بعد نبيهم |
فسدد حتى كان خير مسدد |
سلاماً على الفاروق أقدم عازماً |
على الفتح بعد الفتح في كل مرصد |
دعوه أمير المؤمنين ولم يرد |
إمارتهم إلا لجهد ومجهد |
تصدّى لحرب الروم والفرس وانتضى |
لهم من سيوف الله كل مهند |
وقادهموا بالعزم والحزم والتقى |
وبالعطف والحسنى وفرط التودد |
سلاماً لذي النورين أشرق نوره |
بفيض كريم النفس والوجه واليد |
جواد أبو الأجواد فاضت يمينه |
بخير ولم تبخل بتبر وعسجد |
وأعطى فبرَّ الأكرمين عطاؤه |
وزاد عطاء الطالب المتزوّد |
سلاماً أبا السبطين أكرم من جلا |
برازاً فلم يحجم ولم يتردد |
تصبى السيوف البيض حتى تحطّمت |
عليها الصفوف السود تحطيم جلمد |
فلا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى |
كمثل علي في الصراع المبدد |
هو البحر زخاراً بعلم وحكمة |
وإشعاع إيمان وفرط تزهد |
عظيم كريم كرم الله وجهه |
فما عبد الأصنام في أي معبد |
أبو الشهداء الصيد خاضت وجوههم |
حياض المنايا أصيداً بعد أصيد |
نفوس تسامت للسماء كريمة |
وعافت هوان الأرض في ظل معتد |
كرام من الآل الكرام تدافعوا |
إلى الموت من فادٍ وآخر مفتد |
سلاماً على آل الرسول وصحبه |
وأتباعه من ماجد بعد أمجد |
فراقد لا تحصيهم العين إن بدا |
لها فرقد هامت به بعد فرقد |
سلاماً عليهم أول الدهر ناضراً |
وآخره ضافي المفاخر سرمدي |
فيا واسع النعماء يا واهب المنى |
أنر لي سبيلي في غيابي ومشهدي |
تخيرت لي أم القرى موطناً به |
أقمت وما فارقته عن تعمد |
وإني لأرجو حسن خاتمتي بها |
يكون بها قبري كما كان مولدي |
وعفوك أرجى للمقر بذنبه |
وللمخطئ الغاوي وللمتعمد |