يا كأس يا مصباح قلب قد تحطم في الدياجرْ |
ما جاء حولك أو تسكع غير زنديق وفاجر |
ومعاقر تَخِذَ المدام صناعة القلب المغامر |
يشقى بها لا يستفيد ولا يفيد سوى المخاطر |
الفجر حولك كاذب فالليل في دنياك سادر |
شفقاً تلفّعَ بالغيوم مبرقش الألوان مائر |
وأراه عن نور العيون المبصرات عمى البصائر |
مهما استسر فإنه ليل! وهل لليل ساتر؟ |
والوحش منطلق الأسار ببردتيك له مغاور |
ولغ الدّماءَ سعارُه شهْد على شفتيه ساخر |
يتناش أكباد الفضائل بالمديّ وبالخناجر |
لا يستحي وحيا النفوس على الحياة لها بشائر |
والفكر منك على الضباب المدلهم الجو داعر |
حيران منداح الجوانح راجف الأطراف هاذر |
يطأ الوحول فلا يفيق ولا يطيق سوى المقابر |
أشلاء معركة النهى في راحتيه لها مجازر |
واليوم عندك ساعة حفلت بألوان الكبائر |
يمضي بها العمر الشجي معربد الخطوات ثائر |
لهفان يحدوه الظما القتّال لا يرويه هامر |
بدداً تمزق زائغ النظرات كالمخبول دائر |
واللحن صوبك ثورة الشهوات تبتعث المشاعر |
للمنكرات تبهرجت وتزخرفت رهن الخواطر |
البعض حن لبعضه، كُلاً وما للكل آخر |
لا حد يُعرف عندها والحد مجتمع الأكابر |
والقول بينك فلتة ضاقت بها دنيا السرائر |
يتلقّف الأسرارَ طولُ حديثها السلس المساير |
ما لا يجوز وما يجوز مقاله عند الخناصر |
وتجاورا متلاحمين فواجراً ضمت حرائر |
شأن الأباحي المشرد شائع الخلجات سافر |
يوحي بما تُملي الطبيعة للطبيعة لا تساتر |
باللهو بالأيام تُهدر، بالحياة بلا زواجر |
بالفرد مجتمعاً تركّز فيه مجتَمعٌ مغاير |
يا كأس يا خفقَ الجناح شأى وليس هناك طائر |
لصغائر النزوات أنت مُددت من كف الصغائر |
أبعدت أحزان النفوس وتلك صيقلها المعاور |
واعدتها داءً وليس دواؤه إلاك دائر |
مثل المزيج ضنىً يلمّ بعاهة رسخت أواصر |
قيد تحجب في الغلائل للأساري شر آسر |
يا كأس حسبك أن تكون حطام أخيلة دواثر |
وعلالة الأمل المطاول لطمة الأمل المصابر |
ونهاية الوهم البئيس أضلّه الوهمُ المكاشر |
لتكون عبرة من تبصّر في العواقب لم يكابر |
يا كأس، بل يا خدعة الواني ونى العصب المقامر |
بعض الأمانيّ الكذاب حقيقة الأمد المعاصر |
لمعَ السراب تعشقتْه على الخيال منىً عواثر |
لفّت فجيعتها الزمان فدار مختلط الخواطر |
أغفى بها الجَلد الرثيث مطاول اللحظات صابر |
وأراد مسلوب الإرادة متعة رُبطت بحاضر |
يا ويل مأمور تمثّل أن يقوم مقام آمر! |
يا كأس قد يطأ الصخارَ محلقٌ في الصخر سائر |
السعي كان دليله، والعزم منه له منائر |
وهو الحقيقة بالحقيقة في الجوانب منه عامر |
فإذا المؤَمِل والمؤَّمل وحدة دانت لقاهر |
لكنما يا كأس أنتْ خديعة الراجيك غادر |
فلقد يدانيك المرجّي ما يحاول غير حاذر |
فإذا المُواتي منك خلفة ما تنظّره البوادر |
همٌ أران على الفؤاد وحسرة كثرت مصادر |
يا كأس يا آناً تحدد في المصير بلا مصائر |
قد يستطيب بك المعاقر ما يريد وما يعاقر |
لكن إلى الأمد الذي مهما استطال أطل خاسر |
ولقد تضيء بك الحياة بداية تعست أواخر |
وتغرد الألحان منك هنيهة جرت جرائر |
وترفرف الآمال حولك برهة عزت نظائر |
لتقرّ دونك جُثّماً عبثت بها أيدي الكواسر |
ولقد يلوذ بك المعاني سفح حصباء الهواجر |
ليبيت ملتحف الثرى في زمهرير النفس خائر |
تقفوه للذكرى ما لها في الحس ذاكر |
غيماً تلبد في الرؤوس ألَحت فيه وأنت غامر |
وأشحت عنه وأنت طيف في مدار الظن غابر |
يا هول ما تذرو الحقائق من حطام الوهم صائر! |
يا كأس قد تحلو الحلاوةَ لا تُملّ بها المخابر |
وتلذ لذتك الخفية زانها الشوق المخامر |
وتعز عزتك العتية هاجها النزق المخاطر |
حتى تؤوب كطبعك الطيفيّ أشباحاً لعابر |
فإذا معانيك الطروبة كلها حركات ساحر |
وإذا حطام العابديك هياكلاً بشعت مناظر! |
يا كأس أنت الشعر لا يرضى به إيمان شاعر |
معنى تشعب في الرؤوس ولم تشع به الضمائر |
ومنىً تولدها الظلال من الخيال وكان عاقر |
أما أنا فالشعر عندي ما علمت وما أفاخر |
روح تعلّق بالسماء وجَاس بالآفاق طائر |
وهوىً تغلغل في الصميم ورق كالنسمات طاهر |
آليت، إذ أسمو به، ألا أبيت لديك غائر |
ونذرت، إذ يعلوك، إن أعلو به ثمل المشاعر |
لا بالمشعشع من صبوحك أو غبوقك إذ يساور |
بل بالنديّ من الورود وبالشذيّ من الأزاهر |
وبفرحة العصفور رفرف في ذيول اليوم ماطر |
وببسمة الروض الحيي ولفتة الريم المحاذر |
وبخفقة القلب المتابع في الصبابة قلب هاجر |
وبلثمة الثغر المعيد إلى الهوى ماضيه زاخر |
بعرائس الأسحار نشّرت الذوائب والغدائر |
في حالك الديجور إبلس واهن الخطوات حاسر |
يرنو إلى الفجر المطل بأعين باتت سواهر |
والفجر مشتعل السنا الوردي بالأنداء عاطر |
يخطو فتستبق الحياة خطىً إليه بها تباكر |
خفاقة الأحشاء حرك وجدَها إقبالُ زائر |
فتعانقا فوق التلال وفي البطاح بغير ساتر! |
بنسائم الآصال رقّصت الخضم فخفّ هادر |
تتواثب الأمواج فيه فنافرٌ في أثر نافر |
يلغو بما يهوى فيبتعث الخريرَ صدى المزاهر |
والأفق ذهّبه المرقرق من ذُكاءَ سنىً مغادر |
والكون يعتنق المساء أطل للأحلام ناثر |
والنفس كالأحلام شتّى في الخوالج والنواظر |
هذا هو السكر الحلال دنانه دنيا الخواطر |
الشعر أترع كأسَه السحريّ بالسحر المساور |
ورقى به فوق الجسوم وللعقول به منابر |
لا كأسه يا كأس يُحطم أو تدور به الدوائر |
أو يستذل به الأكابر بين جمهرة الأصاغر |
أو يدلهم به التُقى وجهاً تغضّن بالمناكر |
بل إنه يا كأس كأس الخالدين من العباقر |
ومعارج الإنسان صعّد في مراقي الكون فاكر |
وربابة الشادي ومحراب الشجى وهوى المشاطر |
ومسارح الأبصار مدتها النفوس لها معابر |
لتطل دافقة الشعاع مجنّح اللمحات ساجر |
كأس هو النبع المشاع لوارد ولكل صادر |
من كل لماح الجمال هفا الجمال لديه وافر |
هيهات تبلغ شأوه في الحسن في شتى المناظر |
يا كأس يا زيفاً تلوّن في الحقائق والمظاهر |
حتى تنال خسائسُ الأحجار مرتبة الجواهر |
فاقبع بجحرك في الدنان أو الرؤوس وأنت صاغر |
وتصيّد المحروم والمنهوم لا يثنيه زاجر |
واستغفر المولى على رغم النوى، فالله غافر! |