محمد فدا: مربياً.. وإنساناً |
|
ـ في كل يوم تفقد البشرية آلافاً بل ملايين من أفرادها دون أن نحس أو نتألم لفقدهم.. والسبب في ذلك كما أعتقد هو: أنهم ذهبوا كما جاؤوا دون أن يخلفوا أي أثر. |
أما الذين عملوا وجاهدوا فخلفوا من بعدهم آثاراً وعملاً صالحاً.. فهؤلاء هم الذين تبكيهم الإنسانية قبل أن تبكيهم البشرية. |
والأستاذ محمد فدا الذي انتقل إلى جوار ربه وهو بعيد عن الوطن للعلاج، هو أحد هؤلاء القلائل، وعندما أكتب عنه فإنما أكتب عن مثل من الأخلاق، ومثل في الشهامة، ومثل في الإنسانية، ومثل في مجالات التربية والتعليم، ومثل في الرجولة. |
ولهذا نبكي اليوم محمد فدا، لأنه كان إنساناً بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ونبكيه لأنه كان رجلاً، والرجال قليل. |
ونبكيه لأنه كان مواطناً مخلصاً لبلاده ومليكه وأمته. |
وأنا بهذا لا أظنني من القادرين على إعطائه بعض حقه.. فأنا ما عرفته إلاّ مواطناً، وما اتصلت به إلاّ في مجال اللقاءات العابرة.. لكن حديث الناس عنه، وانطباعاتي العابرة هي التي جعلتني أضع الرجل في هذه المكانة. |
فالناس ـ وخصوصاً في عصرنا هذا ـ لا يكادون يجمعون على شيء ما لم يكن قد بلغ الذروة في المثالية.. ولقد أجمع الناس على أن الفدا كان الإنسان الرجل الطيب. |
ويكفي الفدا أنه كان أحد بناة الجيل الجديد.. وأحد الذين وهبوا طاقاتهم للعلم والتربية السليمة. |
وفي يقيني أن الفدا لم يمت، وإن أصبح في العالم مفقوداً.. فآثاره لا تزال تدل عليه، وأبناؤه الطلاب الذين سيظلون رمز تربيته المثلى سيحيون ذكره، وعمله الوطني سيبقى اسمه رافعاً. |
ـ بدأ حياته العملية مدرساً في المعهد العلمي بمكة.. وبمرتب متواضع جداً.. وقيل له ـ يومها ـ هناك وظيفة كبيرة في الإذاعة.. مرتبها ضعف راتب ((المدرس))! ورفض الرجل ـ في غباء ـ وأصرّ على أن يمضي في هذا المسلك الشريف.. لأنه كان يؤمن بهدف.. ويعتنق رسالة.. لا يحيد عنها. |
وتمر الأيام.. ويتاح للرجل أن يكون مديراً مسؤولاً لثاني مدرسة ثانوية في مكة. |
وهنا.. تبدأ الانطلاقة الحقة. |
يتحوّل جو الإرهاب، والتسلط والنظم التربوية العتيقة إلى مناخ علمي خلاّق ورائع، تبرز فيه المواهب، وتصقل فيه الكفايات، وتوجه فيه الطاقات نحو الخير والتفوق والإبداع، والنمو النفسي الخلقي والعلمي. |
ثم.. يختار الرجل مديراً عاماً لمدارس الثغر النموذجية.. فيحولها من مجرد واجهة علمية للزوّار والوفود الصحفية الأجنبية إلى مصنع ـ حق ـ للرجال، ومصدر إشعاع لثلة كبيرة من أبنائنا.. ومفخرة علمية رائعة.. لا واجهة علمية زائفة! |
لقد آمن الرجل الكريم إيماناً صادقاً بالبناء في سبيل الصالح العام، وجعله محور فلسفته في الحياة ومنهاج تفكيره في السلوك، فهو ما انفك يبني عقولاً ناضجة ونماذج بشرية متماسكة وعلاقات إنسانية وطيدة، عمادها الحب المحض والولاء العميق، والمشاركة الوجدانية المخلصة. |
لقد أصبحت مدارس الثغر ـ بفضل جهد المربي الكبير الأستاذ محمد فدا ـ واحدة من مدارس قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة في شرقنا العربي كله.. على الإطلاق.. بشهادة كبار رجال التربية والتعليم وممثلي الهيئات العلمية التربوية ـ عرباً وأجانب ـ بعد أن اطلعوا على أحدث النظم التربوية المطبقة فيها والخطة الدراسية المتكاملة والجو العلمي المبدع.. الذي يعيشه طلبة الثغر! |
|