شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أستاذي الراحل كما عرفته
بقلم: أحمد خالد السديري
ـ ما إن ترامى إلى مسامعي نبأ وفاة الأجل الأستاذ محمد فدا حتى صعقت.. ولبثت لحظة وأنا ذاهل.. كأن على رأسي الطير.. فيا للخبر.. ويا لقسوة القدر.. كم ناء قلبي بالحزن الذاهل عند وقع الخبر عليه.. وكم لجت حنايا نفسي بالآلام الدامية.. فللَّه كيف اختارته يد المنون؟
إن كنا قد فقدناك.. فقد فقدنا شخصاً وهب نفسه لخدمة العلم من أوسع أبوابه.. وإن كنا قد فجعنا فيك فقد فجعنا في شخص له يد طولى في تربية النشء في هذه المملكة.. وإن كنت قد تواريت عنا فالذي توارى هو إنسان مولع بدنيا العلم والمعرفة وتربية الأجيال.. فقد عاف المناصب العالية من أجل ولعه هذا.. عرضت عليه مرات عديدة وظائف كبيرة في وزارة المعارف لكنه أصرّ على أن يبقى في عمله كمدير مدرسة.
لقد عرفتك يا أستاذي الراحل حين كنت طالباً في المدرسة النموذجية بالطائف (مدرسة الثغر حالياً) وأنت مدير لها.. فعرفت فيك الشخص الذي يتفانى في أداء عمله.. وعرفت فيك الشخص الذي يحرص شديد الحرص على مستقبل أبنائه الطلاب.. وعرفت فيك الشخص الذي لا يألو جهداً في توجيه النصح والإرشاد لأبنائه من الطلبة.. وعرفت فيك الشخص الذي يعتز بالطالب المجتهد.. فلا يتوانى في تشجيعه وفي مد يد المساعدة إليه.. وعرفت فيك الرجل الذي يفرض المساواة التامة بين الطلاب مهما اختلفت طبقاتهم وأعراقهم.. وعرفت فيك الشخص الذي يحدب على أبنائه الطلاب ويحنو عليهم إلاّ أن حنانك هذا مصحوب بقوة.. ومن هنا فقد أحبك أبناؤك حباً يشوبه الاحترام والثقة.. وعرفتك رجلاً نشيطاً على العمل دؤوباً.. تأتي إلى المدرسة في الصباح ولا تغادرها إلاّ بعد مضي الهزيع الأول من الليل.
أذكر أنك عندما عيّنت مديراً للمدرسة النموذجية في الطائف كانت الفوضى ضاربة بأطنابها في تلك المدرسة وجوهاً يسوده شيء من الغرابة.. فاستطعت أن تضع لهذه المدرسة نظاماً متين الأساس وقدرت على إلزام جميع أعضاء الأسرة المدرسية باحترام الإدارة واحترام قانون المدرسة ـ فأظهرت براعة ومقدرة في إدارة المدرسة، ما جعل كثيراً من المدارس تقتبس أنظمتها من هذه المدرسة.. وبرزت في هذه الأثناء آيات الحزم والحكمة التي يتحلى بها شخصك فتبرهن على أنك طراز فريد من نوعه من رجال التعليم.. ولعلّ هذا من الأسباب التي جعلت الفيصل المعظّم يوليك ثقته.. ويكل إليك الإشراف على مدارس الثغر النموذجية التي تعد بحق من أعظم المدارس في الشرق الأوسط..
ولعلّك من الروّاد الأوائل في ميادين التعليم الذين استطاعوا تطوير المفاهيم عن دور المدرسة.. فأنت خرجت بها عن دورها التقليدي الذي ينحصر في حشو أذهان الطلبة بالعلوم.. إلى مجالات أرحب وأوسع.. فقد جعلت للمدرسة نشاطات اجتماعية وثقافية ـ لأنك تراها قبل كل شيء مؤسسة لبناء المواطنين الصالحين في هذا البلد..
إن ميادين التربية والتعليم في هذه الديار فقدت بموتك علماً من أعلامها ورائداً من روّادها.. إن مواراتك الثرى أوجدت فراغاً في هذه المجالات يصعب شغله.. إن أول من يواسى ويعزى عن هذا المصاب.. طلبة العلم ورجال العلم.. وميادين العلم في هذه المملكة.. إن هذا البلد فقد بفقدك ابناً باراً من خيرة أبنائه الذين قدموا إليه جليل الخدمات وعظيم الأعمال.. إن المآثر والمفاخر التي أوجدتها لتنشئة الأجيال.. والمتمثلة أيضاً في الأجيال.. والمتمثلة أيضاً في الأجيال العديدة من شباب هذا البلد الذين تخرجوا على يديك.. ستبقى بقاء الدهر.. إن مصاب هذا البلد غداً أفدح لأن يد الردى أبت إلاّ أن تحكم قبضتها عليك وأنت لا تزال في شرخ شبابك. وفي الوقت الذي كان هذا البلد ينتظر منك الكثير والكثير..
زرتك في أواخر السنة الماضية لكنك لم تكن كعهدي بك في الأيام الخالية.. إذ تراءى لي في وجهك شحوب وذبول ونحول.. وفي نظراتك زيغ.. ما أكدّ لي أنك تعاني بارح الآلام.. ولم يدعني الفضول.. فسألت وقيل لي إن داء عضالاً تعانيه.. فأخذ الألم مني كل مأخذ.. ثم وردتني أخبار تنفي ذلك فحمدت الله.. لكن موتك أكد حقيقة ذلك الداء القتال الذي عانيت منه ما عانيت..
إن لبوث هذا الداء البغيض سنوات عديدة وهو يفتك في جسدك ليعني أنك جالدته وقاومته بكل بسالة وكل شجاعة.. استمديتها من عزماتك المواضي وصبرك الدؤوب.. ولكن.. أبى الدهر إلاّ أن تنطوي في لفائف العدم.. وأبى إلاّ أن تكشر الحياة بأنيابها الرامزة إلى الشقاء الذي ينطوي عليه قلبها.
وهكذا توارى عزيز وانقضت حياة.. ولن تغني عن ذلك الحسرات والأحزان.. فليس لنا إلاّ السلوان والتأسي..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :584  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 38 من 52
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج