وردات ثلاث وثغر باسم وقدر متربص |
|
ـ وقد يكون هذا العنوان لمقال غير الذي أكتبه الآن، ولكن.. لقد رأيت هذا المنظر الجميل بين أب عطوف شفوق وثلاث وردات ما زالت في أيام الربيع.. وهناك على بعد خطوات قدر محتوم يقف متربصاً.. قدر ساخر قد كتب منذ الأزل.
|
لقد رأيت الحنان يتدفق في رقة.. وهو ينساب من يد الزوجة الكريمة.. وهي تمسح جبين أسرتها الصغيرة.. والدموع تترقرق في محاجرها عنيدة ساخنة.. تريد أن تفلت من سجنها.. |
هذه ليست قصة.. لكنها واقع أليم.. عشته.. وعاشته أسرة الأستاذ الكبير محمد فدا.. |
إنني أكتب هذا.. قبيل ساعات من رحيل الأسرة الغالية من واشنطن.. أكتب هذا.. وأوراق الخريف تتساقط أمامي لتخلق جواً أليماً حزيناً.. ولتضيف لمسات أخرى على هذه القصة الواقعية.. |
لقد وصل الأستاذ محمد فدا إلى واشنطن في أحد أيام أغسطس.. وكانت الزهور ما زالت متفتحة.. وما زال لديه.. ولدى أسرته.. ولدينا.. الأمل الكبير في شفائه من المرض الخطير الذي كان يعاني منه.. وبدأت سلسلة من الفحوصات.. والعلاج.. وزيارات الأطباء الكبار.. الأخصائيين.. |
وبدأ الأمل يتسرّب من نفوسنا.. ولكن.. لم ينعكس على نفسيته أو على نفسيات أسرته.. وكنت أدعو للَّه بأن يكتب له.. معجزة.. تنقذه مما هو فيه.. ولكن كيف؟! إن أيامي التي قضيتها مع الأستاذ.. أستاذي.. وأستاذ جيل كامل.. كانت تمر وكأنها دهر.. وما تكاد تظهر تباشير أمل جديد.. إلاّ ويخبو قبل أن أستمتع به.. أما هو فقد كانت هناك آمال كبار لديه.. أمل لتطوير مدارس الثغر النموذجية.. وحدات علاجية.. وحدات فنية أجهزة تعليمية.. نظم دراسية حديثة.. كل هذا كان يدور في ذهنه.. ويسألنا أن نأخذه إلى كل مكان في واشنطن ليطلع.. ويساوم.. ويدقق في التفاصيل.. الأسعار.. الشحن.. كيفية الصيانة.. كل شيء.. وأمل آخر لجامعة الملك عبد العزيز الأهلية.. واحتياجاتها.. ومستقبلها.. وأمل آخر لصحيفة البلاد.. وتخطيط.. ودراسة الإمكانيات الصحفية ومدى الاستفادة منها.. وآمال أخرى متفرقة.. وأهمها.. بناته.. ورداته.. نادية، وأريج، وإيلاف.. الصحة.. التعليم.. الثقافة الأخلاق.. وأخيراً المستقبل المجهول!.. |
يا أستاذي.. هذه ليست نعياً لك.. وهذه ليست رثاء عليك.. إنها كلمة حق.. أكتبها اليوم.. لأوفيك بعض حقك.. الذي حملته في عنقي. |
أستاذي.. لقد كنت أستاذاً في حياتك.. وفي مرضك.. وعند وفاتك.. وقدر لي أن أعيش معك تلميذاً في المدرسة وعشت معك تلميذاً في مرضك أتعلم منك الصبر والجلد.. وكانت لحظات لا أوفيها التعبير.. تلك كانت أصعب من أن يتحملها قلب يحبك.. ويحترمك ويقدرك.. |
كنت ترقد في المستشفى على السرير.. وكنا نحوطك دائماً بالحب.. وكنت تقول أرجوكم خذوا قسطكم من الراحة.. كنت تعاني آلاماً في أعضائك.. وكنا نحسها معك بقلوبنا وعواطفنا.. |
وسوف تبقى ذكراك.. خالدة أبد الدهر.. لأنك رجل بذل جهده وعرقه وأعصابه.. وحياته.. من أجل مليكك ووطنك وأبنائك.. قيل لك يوماً يجب أن تستريح.. وقلت راحتي في مواصلة جهادي وقيل لك أنت في حاجة إلى العلاج وقلت معالجتي لتهذيب أبنائي هي علاجي.. وقيل لك.. منحت المرتبة الأولى.. وقلت أطال الله عمره مولاي أيذكرني وأنا طريح الفراش.. أما زلت عنده الرجل المخلص الذي يستحق كل هذا الاهتمام.. |
وكان ذلك اليوم الذي أصر فيه.. الأب على مغادرة أبنائه إلى المملكة لمواصلة دراستهم.. ووصلت نادية وأريج إلى المستشفى.. وبإذن خاص.. صعدتا إلى الدور السادس الغرفة 605 ودخلتا الباب.. ودمعت عينا الوالد.. ودمعت عيني الممرضة.. وأمسكت نفسي وأنا أغالبها.. وقبلة على الجبين.. ورقّة.. وحنو.. وبدأت دمعتان تتراقصان في عيني الطفلتين.. وامتدت يد الأب لتمسحها.. وقال.. سأعود بإذن الله.. وأراكما في صحة وعافية.. وكونا خير ابنتين لخير أب.. وتركت الغرفة لأنني لم أملك نفسي.. لأن المرض خطير.. والموقف صعب.. ولا أمل في العودة للاطمئنان. |
واليوم.. تعود أيها الشهيد.. إلى وطنك محمولاً على أعناق الرجال.. تعود بعد أن سقطت شريفاً مجاهداً من أجل وطنك وأمتك.. وإذا كانت روحك قد صعدت إلى بارئها.. فإن أعمالك ما زالت تذكرنا بك.. وإذا كنت قد تركت هذه الحياة الدنيا.. فإن حياتك باقية عند الله.. في جنات الخلود.. |
أما ورداتك الثلاث.. فإن الله سبحانه وتعالى سوف يرعاهن بعنايته.. وسيكن خير بنات لخير أب.. وأما أسرتك الكريمة.. فإنها ستظل تحمل مشعل النور والأمل.. الذي كنت تنير لهم الطريق بحمله.. وأما ثغرك الباسم.. الثغر النموذجي.. فإن لبناتك الحية القوية.. ستبقى للأجيال من بعدك.. تتعهدّها.. |
وستشب الفرسان.. وتكبر وتونع.. وروحك ترفرف عليها راضية مرضية.. |
رحمك الله يا أستاذي.. وتغمدك بواسع رحمته.. وألهم أسرتك وبناتك الصبر والعزاء الجميل. |
وبقيت كلمة أخرى.. لحضرة صاحب الجلالة الملك المعظم فيصل الأب.. الذي أحاطك برعايته وعطفه أيام مرضك.. ودعوت له وأنت تقاسي آلامك المضنية.. إنه لن ينسى ما قدمت له من جهد.. وسوف يذكرك.. وسوف يرعى الوردات الثلاث.. وسيكون لهن والداً وراعياً.. وسيحمل مسؤولية التوجيه الذي فقد.. بفقدك.. |
نم يا فقيد العلم.. مرتاح الضمير. فإن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر العاملين.. |
|