شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
محمد فدا.. وذكريات!
بقلم: د. محمد فوزي البشبيشي
ـ قدماً هزّت عاصرة من الفقد أبا تمام فقال مرثيته المتفردة.
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر
فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
ولست بزاعم أن واكفاً من الدمع قد انحدر أو أن عيني غامتا في ماء شجي: لكن الذي أحسسته أن المقابر الهاجعة في صدري قد هاج هياجها حين قبع إليها قبر طريف.. وما أحسب هذه القبور إلاّ هذه الذكريات التي تتوارد على النفس حين تثكل خدنا وتفقد صاحباً وترزأ بنكبة من هذه النكبات التي تعتادنا في اتساق ونظام وكأنها تعاقب الليل والنهار.. وما أظن أن النهار المبصر قد نسا من عمره فاجعة أو أن الليل الهادئ قد خفف من جياش مصيبة ووارى ريباً من المنون الخاطف والمتلبث والمسرع والمتريث لم أسفح دمعه ولم يتورم لي جفن، وإنما انكفأت على نفسي في عبرات مراحها بين الخفق والوجيب وانسياحها بين هذه الصاعدات الهابطات في نفسي.. هذه التي تكون زفيراً ملوعاً وشهيقاً مدوياً وحسرات كاويات منتفضات.. وهل ثم حسرة أوجع من حسرة المعلم على المعلم ولوعة الصديق على الصديق، وترنيمة الذكرى حين تجل عن الحواس وتسكن في اكتمال وترام حيث أحاسيسنا: ويا فرط ما تحمل أحاسيسنا من صور قد خلعت عنها رداءها الدنيوي واكتست هذا الكساء الذي يغمر مجامعنا غير المرئية فإذا بنا نصبح وعاء للذكرى حتى نصير نحن بكل ذكرياتنا ذكرى محفوظة أو مضيعة في الآخرين ولقد ألفيتني أردد هذا البيت لأبي تمام أيضاً:
إن الهلال إذا رأيت نموه
أيقنت أن سيصير بدراً كاملاً
وفي الحق كان جهاد محمد الفدا يتبدى عن هلال وضيء اللمحة قابس الشعلة ثم خبا فجأة قبل أن يحور بدراً قد اكتمل ضوؤه وانتشر زهاؤه وعم رضوانه.. ولن أقول لحى الله الموت فإنه حق لا مراء فيه، لكنني أقول ما أشد افتقادنا للبدر المترقب وللثمار الغيداقة التي لاحت مخايلها ثم تهاوت حيث الفناء المبادر والعدم المراود.. إن موت الفدا قد تكشف عن هذا الصراع المتصاول بين إرادة الحياة وإرادة الهلاك وكم تعاونت الإرادتان ثم سقطت الحياة صريعة وهي تلوذ بأكناف خادعة من الأمل الكذوب.. ألم أقل مرة إننا نحمل أكفاننا بأيدينا ونشم حانوطنا في قلوبنا ونحس بحجارة الضريح تتهاوى في أعماقنا.. وكذلك حمل فقيدنا الأثير الحياة والموت معاً عاماً أو يزيد وكل يوم يدني من نفسه أملاً فتأبى المقادير إلاّ أن تدنى منه يأساً وما أحسب أن إنساناً حمل معه النقيضين مثلما حملهما الفدا في صبر المؤمنين وجلاد المكافحين، فلم يؤخر عملاً نافعاً لدنيا مولية، ولم يحتبس في ذاته فعلاً مشروعاً والحياة تتزايل منه عضواً فعضواً، والسقام يلفه علواً وسفلاً.. وما أظن أن معنى المناضل قد تخلى عنه وهو يدني أنفاسه من القدر اللازب.. لقد آمن الفدا بالعمل وما أصدق قيلة المثل الإغريقي فيه ((العمل عبادة)).. أجل لقد أخبت للعمل وقنت وقدم له زاكي القرابين والذبائح.. وكانت حياته ذاتها أغلى وأزكى قربان..
لقد كانت بيننا صحبة طهور في باحة العلم فما نلتقي إلاّ على رأي، وما نجتمع إلاّ في وثاقة فكرة وما نفترق إلاّ وفي عقولنا وأرواحنا ومضات سابحات من الآراء متأتية ومتأبية، ومن الأفكار سهلة ومعسرة.. وكنت ألمح في عينيه شعاعاً من قلق غير مستقر ونحن نرتاد بعيوننا صفحة النهر الخالد ببلدي ونحن نرتاد بقلوبنا الآماد الشاسعة في البلد القدسي، وكان هذا القلق لا يستقر حتى يرى في كل بقعة مصنعاً من مصانع العلم ومعهداً من معاهد العرفان وداراً من دور التربية.. وقد أسعفه العمل بهذا كله أو بمجامعه فلما آن له أن يمضي شوطاً آخر أكثر فسحة وأعظم جدوى، وأوسع صدراً أناخ عليه هذا المناخ الذي يحط رحله فلا ترده تمائم أو تعويذات أو ابتهالات.. وبعد ماذا أقول في الصديق الغائب: وصورته ممتلئاً وشاحباً ناحلاً وصحيحاً وعليلاً تملأ عليّ كل شيء فلا أرى إلاّ أملاً طال وعمراً قد قصر وقدراً قد تكلم وألسنة قد خرست ووجيعة قد قرعت أحزاناً ونكأت قروحاً وبعثت في أعمارنا القصيرة نواحاً على ذواتنا الفانية بعد حين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :582  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 27 من 52
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

زمن لصباح القلب

[( شعر ): 1998]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج